تأتي الذكرى السنوية لرحيل «زارع الورد» ليتكرّر معها حالة من الاستنفار الجمعي في إعلامنا العربي للاحتفاء بهذه القامة الباسقة والموهبة الأصيلة التي لا زال وميضها يشعّ في سماء الإبداع مؤكدة أن جوهر الأصالة الذهبي يزداد لمعاناً مع تقادم العهد ومرّ السنين. لم يكن «طلال مداح «مجرّد صوت استثنائي في نداوته وطبقاته وحلاوته، ولم يكن مجرد خامة ساحرة في جرْسها واستثنائيتها وطبقاتها التي تتأنّق فتنةً وسحراً حين يتصاعد شجنها ويهبط؟ ولم تكمن عظمته وأهميّته الموسيقية في كونه المؤسّس الحقيقي للأغنية السعودية الحديثة. فطلال مداح -برغم أهمية ما سبق- يشكّل حالة متفرّدة في عطائها وخصوصيتها بدءاً من تفرّغه التام لفنّه وموهبته وعطائه على مدى أكثر من نصف قرن نائياً عن مباهج الحياة ومادّيتها التي تكالب عليها من لا يملك عُشر موهبته ليخلّف لنا إرثاً فنياً خالداً يحتاج إلى أقلام وعقول متبصّرة فنياً ونقدياً لتزيل عنها ركام الإهمال والجهل وليترسّم خطاها شُداة الفن وقاصدو الأثر الفني الخلاّق، وهو إرث في ثرائه وغِناه - تنوّع ما بين الغناء والتلحين والتأليف الموسيقي والمقطوعات والمعزوفات التي لا زالت مناطق بكر لم تطأها أقدام النقّاد، وهو تقصير له وجاهته في ظل انعدام هذه الفئة في مشهدنا الثقافي الفقير في حين أن طلالاً لو ظهر في بيئة عربية أخرى كمصر أو لبنان لقرأنا عن عظمة فنّه مجلدات وظفرنا بدراسات قيّمة تناول فنّه وموسيقاه. فرادة طلال واستثنائيته بدت واضحة حين ساهم مع غيره من الفنانين العرب الكبار كوديع الصافي وفيروز وفريد وغيرهم في أن يوحّد المزاج الفني العام، وهو ما يفسر الذيوع النادر لأغانيه فقلّ أن تحظى باهتمام أغنية كما حظيت»مقادير» على سبيل المثال لا الحصر لدرجة باتت أيقونة فنية آسرة، وهنا لا بد من الإشارة إلى ملمح من عبقرية هذا الفنان، وهو أن طلال مداح حين اقتحم عقر معقل الفن في القاهرة وسط عمالقة الفن العربي كعبدالحليم حافظ ومحمد عبدالوهاب وفريد الأطرش استطاع أن يلفت الأنظار لهذا الصوت الساحر القادم من منطقة لا تسمح ظروفها بهكذا ترف فني ما يعزز التأكيد بفرادة صوت طلال وجمالياته الفاتنة خصوصاً إذا ذكّرنا بافتتان موسيقار الأجيال عبدالوهاب الذي أطلق عليه لقب زرياب وظل يشيد بصوت طلال في كل مكان ومناسبة بل إنه توج هذا الافتتان بلحنين رائعين كان يمكن أن تزداد لولا مزاجية طلال وفوضويته. أما عن طلال الموسيقار فيكفي أنه حتى آخر أيامه كان نهماً في التزود من العلم في فنه وما دراسته للتقنية ومعادلاتها إلاّ لتوسيع وتخصيب خياله الموسيقي كما أشار في أحد لقاءاته التلفزيونية وهو ما يفسر لنا تلك الأعمال التي تتسم بحداثتها والتي مارس فيها التجريب ووسّع من الجمل اللحنية في كثير من أعماله التي تحتاج دارسا بصيرا مؤهّلا لمقاربتها. طلال مداح - لبنان - 1961م