يواجه الفن على المستوى العالمي، لا العربي فحسب، هجمة رأسمالية تكاد تنزع عنه ما تبقى من قيم جمالية وإنسانية، وتجعله مجرد ومضة خاطفة تصنعها الشركات التجارية للاستهلاك الآني الذي لا يبقى في الذاكرة طويلاً، في قالب سطحي يثير الغريزة أكثر مما ينير الفكر. وفي مثل هذا الظرف المتردّي فإن الحاجة أكبر للفنان الرمز، القدوة، المستقل، الذي يرفض الرضوخ للتيار ويصر على تقديم الفن الحقيقي حتى لو أدى ذلك لخسارته مادياً ومعنوياً؛ فالمهم أن ينتصر لمبادئه الفنية ويحافظ على قيمته، وسيتكفل التاريخ بخلوده. هذا الفنان المستقل هو ما تحتاجه الأغنية السعودية الآن أمام الطوفان الاستهلاكي الذي غزاها منذ عشر سنوات وحولها إلى أغنية تجارية سيئة لحناً ومعنى. وقد كنا ننظر للفنان الكبير محمد عبده على أنه "المخلّص" الذي سينقذ الأغنية السعودية مما حل بها من انهيار ذوقي مريع، خاصة بعد رحيل طلال مداح، وبعد انقلاب راشد الماجد وعبدالمجيد عبدالله ورابح صقر باتجاه الأغنية الشبابية بكل ما تحمله من رخص وتفاهة. وقد كان محمد عبده خلال العشر سنوات الأخيرة في مستوى المسؤولية وحافظ على "شيء" من القيمة الفنية في أعماله التي قدمها خلال الألفية الجديدة، والتي بالرغم من تذبذب مستواها إلا أنها كانت أفضل "الموجود" في الفضاء الغنائي السعودي، وبدا معها فنان العرب مناضلاً مقاوماً للمد الرأسمالي المهيمن على الساحة. لقطة من الكليب لكن هذا الأمل، وهذا الإيمان في فنان العرب، بدأ يتزحزح الآن بعد فيديو كليب أغنية "وحدة بوحدة" الذي قدمته القنوات الموسيقية مع إطلالة عيد الفطر بوصفه العيدية التي كان الجمهور ينتظرها بفارغ الصبر، لكنه -في حقيقته- كان "لطمة" في وجه كل محب للفنان الكبير، وذلك لأن الصورة التي نفذها المخرج الكويتي يعقوب المهنا كانت سيئة بكل المقاييس ولا تليق بمكانة وقيمة وتاريخ محمد عبده، إضافة إلى عدم مناسبتها لمضمون كلمات الأغنية ذاتها، فالكلمات "الشبابية" تتحدث عن انتقام حبيبٍ من محبوبه بعد أن عانى بسببه كثيراً، أما صورة "الكليب" فتدور في نادٍ للرقص يغني فيه محمد عبده أمام شباب وفتيات يتراقصون وهو يردد كلمات الأغنية التي لا تمت بأي صلة للصورة. من الذي أقنع فنان العرب بأن يصور كليباً مثل هذا؟. والمهم كيف قبل بالظهور في فيديو لا يليق بتاريخه؟. إن مثل هذه الكليبات لا يقبل بها عادةً إلا الفنان المبتدئ الذي يحتاج للمال وللانتشار بأي طريقة، أما فنان كبير وقائد للساحة مثل محمد عبده فليس بحاجة لا للمال ولا للشهرة وليس مضطراً للهبوط إلى هذا المستوى. الإشكال في الكليب ليس ما ظهر فيه من رخص وابتذال، بل أيضاً في دلالته الخطرة على التوجه الجديد لفنان العرب ورضوخه للرأسمال الذي يريد تحويل الفن إلى سلعة استهلاكية. لقد قبل محمد عبده هذا الواقع بعد أن قاوم طويلاً، ووافق على أن يكون جزءاً من المشهد الاستعراضي الذي لا يلقي اعتباراً للفن ولا همّ له إلا جذب المشاهد بأسرع طريقة؛ حتى لو كانت أسوأ طريقة. إن الفن الذي يُبشّر به الرأسمال هو فن رخيص، لا يحرك شعوراً، ولا يستفز فكراً، ولا يصل إلى أعماق الحالة الإنسانية. إنه فن يسير على السطح ويركز على ما يثير "غريزة" المتلقي، بحثاً عن الربح السريع والمضمون. ومن المؤسف أن ينضم محمد عبده لهذا الاتجاه بعد أن كان الأمل الأخير.