توفير مسكن مناسب وجميل للأسرة من سعادة الحياة الدنيا.. والعرب تقول: الدار ينبغي أن تكون أول ما يُشترى، وآخر ما يُباع.. فلا مناقشة في كون الدار ضرورة، وأن هذه «الضرورة» ينبغي أن تكون مريحة بقدر الإمكان، كافية للأسرة، فإن الدار الضيقة هي العمى الأصغر كما يقول أحد الحكماء.. وكل هذا أمرٌ بديهي ومعروف.. ولكن الذي نود قوله هو أن المبالغة في تفخيم الدار وتضخيمها كثيراً ما يعكس ما ذكرنا من كون الدار سعادة الحياة الدنيا.. فالبيت الواسع جداً على الأسرة، يستنزف ميزانيتها بشكل مستمر، ويرهق سكانها، وكثيراً ما يُقَلِّل اجتماعات الأسرة اللذيذة. حتى إن بعض منازلنا صارت تشبه الفنادق، كل واحد في غرفته أو جناحه أمام تلفزيونية الخاص أو كمبيوتره وهاتفه وحتى الطعام يأتيه في غرفته وحيداً! وهناك - في مثل هذه الحالة - ضرورة لوجود خدم كثيرين يقومون بالتخديم على هذا الفندق! كما يقومون بتنظيف مساحته الواسعة، ورعاية شؤونه، بشكل متعب.. واستهلاك الكهرباء والماء والهاتف فيه فوق الحاجة الفعلية للأسرة بأضعاف.. كذلك استهلاك الأثاث.. أما صيانة مرافق هذا البيت الواسع من كهرباء وسباكة ونجارة وأثاث وحديقة ومسبح وخلافه.. فتحتاج إلى ميزانية.. إذن فإن أول الهدر الذي نلاحظه في مجتمعنا هو المساحات الكبيرة للمنازل في كثير من الأحيان، والتي تفوق حاجة الأسرة في الحاضر، وفي المستقبل تزيد عن حاجة الأسرة كثيراً مع زواج الأبناء والبنات، حتى إن كثيراً من المنازل الكبيرة لم يعد يسكن فيها غير الشيخ والعجوز وقد بردت عليهما وزادها الكبر والاتساع وحشة وبرودة.. واتساع مساحة الأرض أسهل من اتساع مساحة المباني، فالحديقة الواسعة مفيدة في كل الظروف، وصيانتها أسهل وأقل تكلفة، وإنشاؤها لا يكلف إلا جزءاً يسيراً من تكلفة إنشاء المبنى نفسه.. والتصرف فيها ممكن أكثر من المبنى.. على أن الإسراف حتى في الحديقة والفناء مكلف، وفيه هدر، وخير الأمور الوسط، والكلمة الفصل (الاعتدال).. ٭ ٭ ٭ ومن الهدر في كثير من منازلنا، سعة الصالات في الدورين، وانفتاحهما على بعض بشكل كبير، والمبالغة في مساحات غرف النوم الرئيسية بالذات، وكثرة الأسياب والممرات للعبور إلى أجزاء هذا المبنى الكبير! وهذا هدر مزدوج: - فهو يهدر مالاً هائلاً أثناء البناء والتشطيب.. - ويستهلك ميزانية أثناء التأثيث.. - أما الكهرباء فهو يجعل استهلاكها عشرة أضعاف الاستهلاك الضروري للأسرة، فتكييف تلك الصالات الكبيرة المفتوحة على بعضها كالفضاء الشاسع معضلة، وفواتيرها مخيفة، خاصة في أجواء بلادنا الحارقة الحرارة.. ناهيك عن صيانة أجهزة التكييف.. وكذلك التدفئة في الشتاء، والإضاءة في الليل والنهار لأفياء وأنحاء هذا المنزل الواسع الذي يُشبه الفندق.. يشبه الفندق الصالح لسكن خمسين شخصاً وهو لا يسكنه إلا خمسة أو ستة أشخاص! - تنظيف هذه الصالات الواسعة، والممرات الشاسعة، همٌّ يومي، وصرف مستمر، وحاجة ملحة لمزيد من الخدم يجولون في البيت ويصولون، وقد يكونون أكثر من أهل البيت! - وتلك الصالات المترامية الأطراف فوق الحاجة والفائدة.. تحتاج حتى لا تتحول صحراء قاحلة.. إلى أثاث كثير وفير.. ولوحات فنية وسجاد في مختلف الجلسات والأركان.. وستائر بعضها بطول قمة أفرست لتغطية الزجاج المرتفع من قعر الأرض إلى نهاية السقف الأعلى بين الصالات المفتوحة على بعضها وكأنها مفتوحة الفم أيضاً تضحك على أهلها وهم يجاهدون في تحسينها! إن كثيراً من الرجال حين يُخَطِّط الواحد منهم منزله يكون حالماً يشبه السارح في أحلام اليقظة، وحين ينفذه - بناءً على تلك الأحلام - يُصْدَم بالحقيقة، الحقيقة التي تجعله يدفع ثمن تلك الأحلام أضعافاً مضاعفة. أحلام اليقظة حلوة.. ولا تكلف شيئاً طالما كانت في حدودها الهائمة.. ولكن محاولة تحويلها إلى واقع شيء آخر..! وإن كثيراً من الرجال والنساء حين يخططون لبناء منازلهم تملكهم فكرة التفاخر وحب المظاهر فيكبرون المخطط ويرسمون الصالات الشاسعة والواجهات الهائلة وبعضهم ينفق عليها دم قلبه ليشبع جشعه للتفاخر فربما يُصاب بمرض القلب من جهتين: التعب ودفع دم القلب وحرارة عشق المظاهر في جوفه ونار حب التفاخر في قلبه. ويكون - من كل النواحي - دفع الكثير لينال أقل من القليل. والاهتمام بالناس ومفاخرتهم مصيبة.. مصيبة على صاحبها.. أما الناس فمادروا عنه.. ٭ ٭ ٭ وقد قال لي رجلٌ فاضل بنى مسكناً واسعاً فيه صالات شاسعة فوق وتحت مفتوحتان على بعض حتى السقف الأعلى كما تُفتح الأرض على السماء، ومع أنه رجلٌ مقتدر مالياً جداً.. إلا أنه قال صادقاً: فرحت بهاتين الصالتين!.. هذان البهوان.. فرحت أول ما سكنت رغم ما أنفقت فيهما وما خسرت من مال وجُهد وأعصاب.. ولكن فرحتي تلاشت بسرعة بعد قليل من انتقالنا لهذا البيت!.. الفرجة على البهو الشاسع المفتوح غير السكنى فيه!! إن الفرجة تشبه دخولك مزرعة كبيرة خضراء يانعة ولكن السكن الفعلي يشبه قيامك برعاية هذه المزرعة الهائلة كل يوم.. هم الرعاية ينسيك لذة الفرجة.. أصلك لم تعد متفرجاً أصبحت لاعباً.. بل أصبحت راعياً.. ثم قال: هما صالاتان واسعتان بمثابة واحدة لانفتاحهما الطويل العريض على بعض!.. تدري؟ في الشتاء تذكرني هذه الصالة بليل الشتاء: طويل جداً وبارد جداً.. وفي الصيف تذكرني بنهار الصيف: حار جداً وطويل جداً.. وعليَّ باستمرار أن أكابد وأدفع لأحيل ليل الشتاء إلى نهار في موسم الربيع.. وأصيل نهار الصيف إلى مساء ربيعي ضاحك الأنسام.. فأدفع لأجل هذا من فواتير الكهرباء وصيانة التكييف ما الله به عليم، ناهيك عن الترتيب والتنظيف.. وبعد كل هذا يستحيل عليَّ تحويل الفصول.. وتحميل الأمور غير طبيعتها.. الله وحده الذي يصنع الفصول ويخلقها ويغير الأجواء ويأتي بالليل والنهار وبالصيف والشتاء.. والأدهى من هذا - يقول - إن هذه الصالات التي يجب أن أمطر عليها ذهباً وفضة من رصيدي لم يعد أحدٌ يجلس فيها!.. صارت للمرور.. للعبور.. عندنا زاوية صغيرة نجتمع فيهما كلنا كالعصافير التي تبحث عن عش دافئ ونحن مع الأسف لا نجد العش الدافئ في هاتين الصالتين وكيف نجده وكأنهما ملعب كرة ونحن أسرة تريد أن (تلتم) وتحس بالدفء والقرب!.. لركن هادئ خير ألف مرة من صالة تصافق فيها الرياح!.. وماء عذب قليل خيرٌ من بحر مالح.. ثم قال: والأدهى حين أكون وحدي في هذا البيت الكبير!.. حين يسافر الأولاد وأجلس لظروف العمل!.. وحتى وأولادي معي نحس إن.. إن جلسنا في الصالة الكبيرة أننا مثل خمسة أنفار قُدِّمت لهم مائدة تكفي لستين نفراً!.. إنها تُفزع أكثر مما تشبع! ثم ضحك وقال: وذات ليل شتائي دخلت وأنا وحيد بيتي الواسع هذا وكانت بعض النوافذ مفتوحة وبعض الأبواب وكانت الريح تعوي في الصالتين وتعصف مدمدمة وتتصافق بين الدور الأرضي والأول وتمخر الممرات والأسياب وترفع الستائر وتخفضها وتَصْفق الأبواب قلت بصوت مسموع: بسم الله الرحمن الرحيم! وأسرعت لأقفل نافذة في الصالة عريضة جداً فضربني الإعصار البارد وأنا أدخل رأسي خلف الستارة التي رفعتها الريح كخيمة، وصَفَقَ بابٌ ارتجت له عظامي والريح لا تزال تعوي فذكرت بيتاً من الشعر القديم يصف الصحراء ويقول: تجري بها الرياح حَسْرَى مولَّهة حيرى تلوذُ بأطراف الجلاميد! وقلتُ في نفسي: الحائر المتحسِّر أنا والله!.. يا مَنْ شرى له من حلاله علة! ورغم إقفالي النافذة بعد مصارعة مع الريح إلا أن الأسياب العليا والسفلى أخذت توشوش بتيار هوائي مخيف فقد كانت بعض الأبواب مفتوحة من الجانبين، فتذكرت المجابيب في زماننا القديم، حين كانت الريح تأخذها ذهاباً وإياباً وكأنها في سباق المئة متر، وأحسست أن الرياح اتخذت من بيتي مسرحاً تمارس فيه هوايتها في العصف والقصف فخطر لي على الفور أن أحوِّل هذا البيت إلى (مسرح) وكنت جاداً فتأملت وضعه ووجدت أن ربع الصالة الأرضية يكفي لخشبة المسرح وزاويتنا الخلفية لما وراء الكواليس والأسياب الطويلة مقاعد للجماهير والصالة العليا هي الدور الثاني للمتفرجين (البلكون) كنت جاداً في تحويل هذا البيت إلى مسرح ولا أزال لكنني انتظر فقط أن يسمحوا بتصريح المسارح! قلت: وماذا تسميه إذا حصلت على تصريح؟ قال: مسرح المظاهر!