قامت الدولة السعودية على قواعد الإسلام الراسخة واعتنت بنشر تعاليمه السمحة، منذ تأسست في طورها الأول بين الإمامين محمد بن سعود، ومحمد بن عبدالوهاب - رحمهما الله - على أساس الاعتصام بحبل الله - تعالى - فاجتمعت قوة الدين مع قوة السلطان، فتأسست دولة قوية الأركان، عالية البنيان، فجزاهما الله عن الإسلام والمسلمين خير ما يجزي به عباده الصالحين. وعلى الأساس نفسه أعاد الملك عبدالعزيز تأسيس الدولة السعودية في طورها الثالث، امتداداً للمنهج المتبع، وانطلاقاً من القاعدة ذاتها. ومع قلة الإمكانات في ذلك الوقت، إلا أن الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - رحمه الله - كان يؤمن بأن للمملكة العربية السعودية (وهي بلد الحرمين الشريفين) دوراً رائداً في نشر الإسلام، وخدمة المسلمين في العالم كله، ومناصرة قضاياهم، لأن هذه البلاد قبلة المسلمين، ومهبط الوحي، ومهد الرسالة المحمدية. وعلى هذا النهج القويم سار أبناء الملك عبدالعزيز من بعده، مشبعين بهذه الروح الإسلامية ومحافظين عليها. فما من بقعة في هذا العالم إلا كانت مقصداً لهم في بث هذا المنهج، فتأسست الهيئات والمنظمات الدولية التي تخدم الإسلام والمسلمين، وبنيت آلاف المساجد في العالم، وتأسست مئات المراكز والجمعيات الإسلامية التي تعنى بشؤون المسلمين. وفي عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود - رحمه الله - الذي كان يملك من التجارب ما يؤهله لمواجهة جميع التحديات التي تواجه المسلمين في كل مكان (دولاً وأقليات وجاليات) وكانت الرسالة التي تحملها المملكة العربية السعودية في خدمتها للمسلمين، تنطلق من نشر العقيدة الصحيحة، ورفض التبعية الفكرية للتيارات المنحرفة، أو الخضوع للغزو الشيوعي أو العلماني، وسائر الأيديولوجيات التي ترفض الدين وتعبد الدنيا، إن الرسالة التي أعلنها - رحمه الله - تؤكد الثبات على قواعد الإسلام الذي يحتل منهج المملكة العربية السعودية في الدعوة إلى الإسلام، ونشر الخير بين الناس بما يحفظ أمن العالم، ويوطد علاقات المجتمعات. وبصفة عامة، فإن العمل الإسلامي الذي تتبناه المملكة انطلق من الثوابت التالية : 1- أن في العقيدة الصحيحة الخير للبشرية ووحدتها وأمنها، وفيها الأسس الكفيلة بإنقاذ الإنسانية وحمايتها من كل ما يفقدها الأمن والطمأنينة. 2- نشر التعاليم الإسلامية السمحة والقيم الإنسانية العليا، ومدافعة قوى الإلحاد، وتفنيد الأفكار الهدامة. 3- الدفاع عن حقوق الإنسان وفق الرؤية الإسلامية، ومناصرة الأقليات المسلمة، وحمايتها من الذوبان والتبعية التي تمسخ هويتها الإسلامية، مع احترام الدول والمجتمعات التي تعيش فيها والنظم التي تحكمها. 4- العمل على تحقيق مبدأ العدالة بين أفراد المجتمعات الإنسانية، وفق ما يحقق التعاون بينهم، لبناء مجتمع متكافئ يؤمن بالحقوق المشروعة للإنسان. 5- الإيمان بما تقوم به المملكة بأنه واجب شرعي ينطلق من قوله :{ إنما المؤمنون إخوة}، وأنه من باب التعاون على البر والتقوى. وعلى هذه المبادئ الواضحة الهادية انطلقت سياسة المملكة العربية السعودية في مساعداتها للمسلمين في العالم، فلم يكن الأمر مجرد أمنيات، أو مجرد شعارات، بل هو عمل دائب، وتواصل مستمر. بل إن الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود - رحمه الله - أطلق على نفسه لقب خادم الحرمين الشريفين، ليعمق المعاني المتصلة برسالة الإسلام، ووظيفة الحاكم المسلم الملتزم، ولكي يحيي في النفوس المسلمة معاني العزة، والكرامة بالانتساب إلى خدمة هذا الدين، والاعتزاز بالتضامن الإسلامي القائم على أمة واحدة، تتجه إلى قبلة واحدة. ولعل من نافلة القول أن نقول : إن إنشاء مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة، إنما هو مخطط لتحقيق هذا الغرض، ليكون كتاب الله في يد كل مسلم، ولتكون ترجمة معاني القرآن الكريم بين أيدي المسلمين الذين لا يعرفون العربية، وهم أضعاف من يعرف العربية، ولم يكن تجاهلهم ممكناً. ولم يقف الأمر في هذا المجمع العالمي عند طبع المصحف بأحجام وأشكال مختلفة، وبتقديم بعض التفاسير الملحقة في بعض الطبعات، وترجمة المعاني إلى اللغات الحية، بل تعداه إلى تسجيل المصحف بأصوات المقرئين المعتبرين، بروايات عدة كرواية حفص، وورش، وقالون، تسجيلاً مرتلاً، خاضعاً لأحكام التجويد، مع اختيار نداوة الصوت، ليكون عميق التأثير في النفوس التي ترنو إلى سعادة الدنيا والآخرة، بالعيش مع كتاب الله - تعالى - مع توزيع هذه المصاحف المسجلة المسموعة في العالم، كما أن المجمع قام باختيار عدد طيب من الدراسات المتصلة بالقرآن الكريم وعلومه، ومن ثم طبعها وتوزيعها. واستمراراً لتأصيل هذا العمق العالمي في الدعوة إلى الإسلام لدى خادم الحرمين الشريفين، أنشئت أول وزارة تعنى بشؤون المسلمين والدعوة إلى منهج صحيح، إذ أنشئت وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، اختصاصها العناية بشؤون المسلمين، والدعوة إلى الله على بصيرة، والعناية بالأوقاف والمساجد. كما أصبح للإفتاء دار مستقلة، وأصبحت وظيفة المفتي وظيفة مستقلة، وهذا كله من شأنه أن يمتد بمساحة العمل الإسلامي، يعطيه قدرة على التركيز والتخصص، يفتح أمامه آفاقاً واسعة، ومجالات رحبة. وبتوجيه خادم الحرمين الشريفين - رحمه الله - ودعمه، تأصلت فكرة إقامة مراكز إسلامية متعددة الأغراض، فإلى جانب المسجد، توجد مكتبة تحوي أمهات المراجع والمصادر في علوم الشريعة واللغة العربية، والتاريخ الإسلامي، هذا بالإضافة إلى تخصيص جزء منه لتحفيظ القرآن، وقاعات للنشاطات المختلفة، كذلك تعليم الناس أمور دينهم. ومما يضاف إلى ذلك، هذه التوسعة التي تجاوز فيها الملك فهد - طيب الله ثراه - المقاييس الزمانية، والمكانية للحرمين الشريفين، فهي بحق تعد أكبر توسعة في التاريخ، وكذا إنشاء الطرق وحفر الأنفاق لتيسير المواصلات بين المشاعر في مكةالمكرمة، حتى يستطيع الحجاج والعمار تأدية المناسك بيسر وسهولة، كما اهتم - رحمه الله - بتوفير وسائل الراحة من خلال استغلال الوسائل الحديثة في التكييف المركزي، والسلالم والأسقف المتحركة، وتوفير ماء زمزم في المسجد الحرام، والمسجد النبوي، إلى غير ذلك من الإمكانات والخدمات التي يلمسها كل الحجاج والعمار، ومكرمته السنوية باستضافة أعداد كبيرة من المسلمين الذين لم يحجوا من قبل ولا يملكون القدرة عليه، وكذلك مبرته السنوية لعموم الحجاج بالوجبة المتكاملة التي توزع في المشاعر المقدسة طوال أيام الحج المباركة. وإنه لمن الواجب اعترافاً بالفضل، وتسجيلاً للحقيقة، وانطلاقاً من الحديث النبوي «من لا يشكر الناس لا يشكر الله»، وتشجيعاً لعموم الأمة المسلمة للمشاركة في كل ما من شأنه خدمة المسلمين وتوعيتهم. أن نذكر جهود المغفور له - بإذن الله - الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - في الشؤون الإسلامية، واهتمامه بها. ومن المعلوم أن سياسة المملكة العربية السعودية في معالجة القضايا منذ عهد الملك عبدالعزيز - رحمه الله - تقوم على أسس ومعايير ثابتة، مستمدة من منهج دعا إليه القرآن الكريم وامتثله نبينا محمد وهو منهج الحكمة والتثبت: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}، بل إن التبصير، والعلم الشرعي، هو قائدها ومرشدها إلى السبيل الذي تسلكه: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني}، ومما لاشك فيه أن هذا المنهج سيدوم، ويستمر - بإذن الله - في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وسمو ولي عهده الأمير سلطان بن عبدالعزيز - حفظهما الله - لأنهما على ذات النهج يسيرون، ومن ذات النبع الإيماني الصافي ينهلون. لقد اقتضت طبيعة عملي مقابلة كثير من الزائرين للمملكة، وكثير من الحجاج والعمار الذين ينزلون ضيوفاً على المملكة، أو يمثلون حكوماتهم في موسم الحج المبارك، بالإضافة إلى كثير من الإعلاميين والرسميين والمثقفين والأكاديميين الذين ألتقيهم في الندوات والمؤتمرات التي تعقد في داخل المملكة وخارجها. وقد لمست تقديراً كبيراً لسياسة المملكة الحكيمة، كما لمست تقديراً كبيراً لجهود المملكة في خدمة الحرمين الشريفين، وخدمة زوارهما، وهو أمر يحظى بإجماع لا نظير له، كما أن المسلمين جميعاً لا يخفون مشاعرهم تجاه مواقف المملكة في نشر المصحف الشريف، وترجمات معانيه في العالم كله، وهي أعظم هدية تقدمها المملكة، أو يقدمها أي مسؤول سعودي للعالم في جولاته. أما مواقف المملكة في إغاثة إخوانهم المسلمين في محنهم، وكوارثهم، وبناء مساجدهم فهو أمر يحظى بالعناية البالغة، ويعرفه الناس، ولله الحمد والمنة. وأحب أن أشير هنا إلى أن جهود المملكة في المجالات الإسلامية المختلفة، إنما تنبع من إيمانها بحتمية التضامن الإسلامي بين المسلمين، وكما كان هذا المنطلق واضحاً في ذهن الملك عبدالعزيز وأبنائه، - كذلك - كان واضحاً في سياسة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد - رحمه الله - الذي صرح أكثر من مرة وبأساليب مختلفة: بأن المملكة العربية السعودية بحسبانها قِبلَة المسلمين، وبلد المقدسات، هي الأمينة على مقدرات هذه الأمة، ولهذا - والحديث له رحمه الله - نعتقد اعتقاداً جازماً، وأكيداً بأن الوسيلة لإظهار قوة العالم الإسلامي، إنما تكون من خلال تضامنه، حتى نستطيع الوصول إلى أهدافنا، بأن نكون شركاء في رسم السياسة الدولية. وفي توضيح لهذا المبدأ، وبيان سبل النجاح، طالب - رحمه الله - المسلمين بالعودة إلى مبادئ الدين، وقيم الإسلام، وأحكام الشريعة، مذكراً إياهم بأن المملكة جزءٌ ودولةٌ من دول أمة الإسلام، فهي منهم ولهم، نشأت تحمل لواء الدعوة إلى الله، ثم شرفها - سبحانه - بخدمة بيته العتيق، ومسجد نبيه الشريف، فزاد ذلك من حجم مسؤوليتها، وتميزت سياستها، وتضاعفت لأجله واجباتها، وهي إذ تنفذ تلك الواجبات على الصعيد الدولي، تتمثل ما أمر الله به من الدعوة إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة. ومما قاله - رحمه الله - أيضاً: (هذا هو منطلق سياستنا في الداخل والخارج، لذلك فإن على المؤمنين من قادة المسلمين وعلمائهم مسؤولية كبرى في مؤازرتنا في الحق، والسير معنا في طريق الدعوة إلى الله، وتطبيق أحكامه في شتى فروع الحياة). وهذه الكلمات تدلنا إلى الحقيقة الأساس في السياسة السعودية، وتقودنا إليها، فهي مرتبطة بمعالم ثابتة ومنطلقات واضحة، ولها أهدافها التي تسعى إليها بوسائل كريمة، وآليات حكيمة، ومهما كانت التحديات فإن ثوابت المملكة ليست مطروحة للمساومة، وإن انتماءها لعقيدة الإسلام، ولشريعة القرآن، والسنة الصحيحة هو انتماء حياة ومصير، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. ومع الثوابت والمبادئ والقيم الإسلامية، والالتزام بها في السياسة العامة تجاه العالم للمملكة، فإن المملكة لم تعتد على أحد، ولم تعلن حرباً على أحد، ولم تتدخل في شؤون أحد خارج نطاق المسموح به في العلاقات الدولية بين الدول، وفي نطاق الاشتراك في المنظمات الإسلامية الدولية والشعبية والإنسانية العامة. ونجحت المملكة - مع ذلك - ونجح خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - خلال السنوات الماضية، وخلال مشاركاته في الحكم من خلال إخوانه قبل هذين العقدين، نجح - من خلال هذه الرحلة الطويلة - في تقديم خدمات ذات أبعاد استراتيجية، وذات أقدام ثابتة، يعترف الجميع بها في المحيطين العربي والإسلامي على السواء، كما أن أياديه الإنسانية تجاه العالم كله تعكس قيم الإسلام الرفيعة، وتعكس خلاصة الرسالة الإسلامية التي أنزلها الله على محمد بن عبدالله رسول الله عندما خاطبه الله وكأنه بأداة الحصر يجعل رسالته محددة في هذا الإطار قائلاً له - سبحانه وتعالى - :{ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}. وعلى هدي رسول الله كانت سياسة المملكة، وسياسة خادم الحرمين الشريفين - رحمه الله - رحمة مستمدة من شريعة من أرسله الله تعالى رحمة مهداة للعرب والمسلمين ولغيرهم. وعلى هذا النهج القويم ثبتت المملكة العربية السعودية، وستظل ثابتة إن شاء الله، وستحافظ بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وسمو ولي عهده الأمين الأمير سلطان بن عبدالعزيز على النهج الذي اختطه المغفور له الملك عبدالعزيز - رحمه الله - وعمق جذوره أبناؤه سعود، وفيصل، وخالد، وفهد - رحمهم الله جميعاً - باتخاذ المواقف الإيجابية في سياستها الخارجية لخدمة الأهداف التي تسير عليها المملكة منذ قيامها، وتعزيز التضامن العربي والإسلامي، والعمل الإيجابي المشترك لحل القضايا التي تعاني منها الأمتان العربية والإسلامية، وأهمها قضية فلسطين، والدعوة لتوحيد صفوف الأمة، وتحقيق التضامن بين دولها، لكي تستعيد هيبتها المسلوبة، وماضيها المجيد، واحترام مواثيق هيئة الأممالمتحدة، ودعم السلام العالمي العادل، واتخاذ المواقف الإيجابية التي تحقق مصلحة البشرية، والرخاء، وتسهم في الاستقرار، وقبل ذلك المحافظة على سيادة المملكة، واستقرار الأمن والطمأنينة فيها.