أخلف الصباح موعده، ليمتد ظلام الليل ويحوي كل أوقاتي. مضت سبع سنوات على وفاة أمي، لتكون سنين فقدها هي كل حياتي التي أتت من بعدها. سبع سنوات وعيني لم تتحرر من الدموع، أرى كل الوجوه تأتي وترحل، تغيرت الحياة كثيراً وما زلت أنا كما أنا، أتنفس أيامي بهواء أمي، وأغادر الكل في تفكيري ليرتد في آخر المساء إلى غاليتي التي رحلت أمام عيني لتخلف خلفها حكايات كثيرة يغلبها الحزن والألم والفقد. من يفقد أمه في الحياة فقد فقد شيئا كبيراً في حياته لا يعوض مهما كان التعويض، فرحيل الأم هو الألم الذي لا تخف أوجاعه، وهو المرض الذي لا شفاء له، وهو الخسارة الكبرى وبعدها لا خسارة تأتي أمامها. كنت مع صديقي في مشوار في الحياة. رن عليه هاتفه، بدأ حديثه بهدوء ثم ارتفعت حدة صوته، وحين أغلق هاتفه، خاطبني بتأفف أن أمه تريد حاجة الآن وألحت عليه فيها.. حين أمرته أن يقف بسيارته، وفتحت بابها وقلت له: فعلاً لا يحس بالنار إلا من وطئت قدمه فيها.. سأنزل هنا، وستنزل صداقتك معي. ارحل الآن.. فقد علمت أن لا خير منك.. وحتى الآن يحاول الاتصال بي، ولكني أرى رقم هاتفه فقط، فاسمه قد مسح من ذاكرة هاتفي.. ومن ذاكرتي.. أماه في داخلي شوق كبير لك، لا يعرفه سوى تراب قبرك، حين قلت له إنني مشتاق لك، فتحول التراب إلى طين.. مؤلم جداً أن تنام على بسمة أمك.. وتصحو صباحاً لتحملها على عاتقك للصلاة عليها في المسجد.. مؤلم جداً أن يظل ذاك العطر بجانبك ليلاً لتفاجئ أمك أول أيام العيد بها كهدية، وتصحو لتجد العطر ينتظر فرحة أمي كما هو، وأنت في زحمة الأحزان تبحث عن رائحة أمك.. في زواج ابن عمي البارحة، رميت بعض الفرح لوجهه حين تهنئته، وحين كنت انتظر زوجتي أن تخرج من الزواج، ترى من حولك أحد الشباب أتى ليأخذ أمه، وحين خرجت من الباب، قام ليقبل يديها ويسندها إلى باب سيارته، وأنت تعلم أن أمك هناك تحت الثرى.. وصلت البيت والموقف في ذاكرتي، والدمعة تجاهد للنزول على خدي، أوصلت زوجتي وذهبت لقبر أمي.. كي أتأسف لها.. على ماذا.. لا أدري!.. مؤلم جداً.. أن تعود من عملك وتشتري بعض الأغراض لعائلتك قبل عودتك لمنزلك، وفجأة يقع نظرك على فاكهة كانت تحبها أمك، وتطلبها منك دائماً.. ومؤلم جداً أن تخرج من المتجر وهي ليست معك.. مؤلم جداً أن تعيش وأن تعلم أنك لن ترى أمك مرة أخرى، مؤلم كل شيء في الحياة تراه وتعلم أن أمك لن تراه معك.. سبع سنوات يا أمي.. مضت من دونك.. أستغرب على نفسي.. كيف تنفست فقدك، وكيف حتى الآن يا أمي أعيش الحياة دون ظلك.. فالحياة موجعة من بعدك يا أماه.. في داخلي مساحات كبيرة من الفراغ.. حين ناديت أمي ولم تجب !.. ليس في حياتي سوى أنتِ يا أماه.. وحين رحلت أصبحت حياتي فارغة إلا من غبار لم تمسحه الريح، وملل لا يقتله وقت.. أصبحت غريباً بين كل الوجوه التي تعرفينها والتي لا تعرفينها.. فقدت الآمان في الحياة.. وأصبحت أبحث عنه عند قبركِ.. فلا تغضبي مني يا أمي إذا جئت إلى قبرك ولم أتكلم.. فالدموع لا تعطيني فرصة نطق حرف واحد.. فرحيلك لم يخلف خلفه سوى دموع تبكي الفقد..