ليس ضروريا أن يكون الشعر الشعبي البدوي لشعراء بدو، ولكنه شعر تخلّق برداء البادية ومعانيها وتقاليدها، رداء قشيب ومعان سامية، بروح تلك الفياض الفيحاء، والمعاناة المعشوقة، وأبدع متذوقو هذا الشعر، المولعون بتقاليد الحياة البدوية، بما يعبر عن مشاعرهم تعبيراً يرضي ذائقتهم المبدعة وينقل عنهم بصدق تلك المشاعر الجياشة. والغزل في المجتمعات المنتمية للبادية لا يصرح به الشاعر مبكراً، وإنما يتسلل هذا الشعر إلى المتلقى عبر قنوات تتوق إليه، وتؤمن بأسبابه ودوره في الحياة، وقوة حفزه للشاعر، والشاعر لا يجيد التعبير إلا عما يمتلك مشاعره أو يثيرها حبا كان أو وصفا أو ثناء أو غير ذلك. ومَنْ غير الحب والجمال مثير للابداع والأشجان؟ لهذا كان الغزل نتاج أقوى المثيرات للشاعرية لما بين الشاعر ومثير شاعريته من تناغم، وما يصاحب ذلك من آمال وحرمان ومحاذير، ولأن هذا الغرض من أغراض الشعر يختلج الصدور ويسكنها طويلا ولا يطرقها عابراً، ولأن تقديم الذات للآخر تفرض حالة استثنائية وإصراراً عن قناعة وإيثار للمثير، وخير الغزل ما احتفظ بالعزة والكرامة والخضوع الايجابي والانصراف المهذب. ولأن هذا الشعر هو الأكثر ميلا إليه الشباب، وأنه قد يجرف الشاعر الشاب إلى مهاوي الردى، يسعى الآباء في المجتمع البدوي إلى صرف أنظار أبنائهم عن حفظ الشعر أو إبداعه، ولكن هيهات أن ينصرف قلب الشاعر عن مراده وهاجسه. والحذر من الاندفاع الذي يصرف الشاعر عن ارتياد الفضائل قيمة تربوية. والعرب منذ القدم يمقتون التغزل بنسائهم وقد يعاقبون من يقدم على ذلك خشية الظنون وارجاف المغرضين، ويحرمون من تغزل بفتياتهم من الزواج بهن. والمجتمع البدوي ما زال يعانق هذه النظرة. على أية حال، الغزل أحد أغراض الشعر الرفيعة، ولا يدعو للريبة تغزل في فتاة تمتلك من جمال الشكل وكمال الخصال ما يلفت الأنظار إليها، وإلى الأشادة بهذا التميز، وإلى معقبات ذلك في قلب الشاعر. وهناك من الغزل الوضيع الذي تأباه النفس السوية، وتمجه الذائقة السليمة. وسترون في القصيدة التالية التي اخترنا للشاعر خالد بن عقاب الكسر العتيبي من كتاب «شعراء الجبل الشعبيون» للأديب الباحث القدير عبدالرحمن السويداء»، وفيها يصور الشاعر معاناته مع الهوى فما أن ارتاح من هوى وعاد إلى الحياة البعيدة عن الأشجان علق بهوى جديد كان أشد وقعاً على قلبه فقال: يا مِن لقلبٍ عقب نِسْيَ الهوى فاق تعرَّض الشَّبَّاك عقد ولو لاس واشتال من حمل الفضافوق ما طاق واكتال من غَبْنٍ ليا الزَّود مقياس يستنجد لانقاذ قلبه من لواعج الهوى التي ألمت به مرة أخرى ووقع في شباك الحب المتشابكة التعقيد التي التفت عليه. والغضا شجر جمره شديد الحرارة «با تقلب على جمر الغضا» والغبن هنا زيادة الألم الذي يمنى به المغبون. ثم يناشد هواه ويشكو إليه ما يعاني: يا زَيْنْ عوَّقْتَنْ وانا منك منعاق خلَّيتني ما بين هم وهوجاس أرهَفْتَ لك قلبا خشوعٍ ومرهاق أرَقْ من سلك البَرْيسِمْ على اللاس ويبدو أن المحبوبة الجديدة هي المحبوبة الأولى التي ربما قطع الأمل من مودتها وانصرف كل منهما إلى سبيله، ولكنها اعترضت طريقه وجددت هواه: جددت حبك ليه بعد الفؤادما ارتاح حرام عليك خلّيه غافل عن اللي راح وبات رهن الأحلام والأوهام والهواجس التي عادت إليه ولم تشف جراحه الأولى وأصبح حائراً متردداً بين الانصراف والاقبال الذي لا مفر منه مهما تساءل: يا هل ترى قلبك مشتاق يحس لوعة قلبي عليك ويشعل النار والأشواق اللي طفيتها انت بايديك وندع أحمد رامي عائدين إلى شاعرنا العتيبي الذي يعاتبها بأنه في حبها أرهف قلبه فعاد أرق من سلك الحرير على قماش اللاس الذي كان ظاهرة في زمنه بعد الدوت والبوبلين والاقطان وفخر الماجود، وجاء من بعد ذلك أنواع وألوان. والشاعر هو من جعل قلبه مرهفا من أجل حبها، ولا يمن عليها بهذا الارهاف وان كانت تستحق ذلك لما تتميز به من صفات عن أترابها: يا ابو نهودٍ كالفناجيل لُبَّاق حُمْرٍ ثمرهن بابيض اللون غطاس وفناجيل أو فناجين القهوة دلالة على صغر النهدين واكتنازهما، ولباق غير بارزة دلالة على السن والحجم اللائق، وفي هذا البيت تصوير وتشكيل شاعر فنان مزج بين لوني الأحمر والأبيض وتدرجهما وأردف بثباتهما في الصدر غير متهدلات أو متكورات، وتلك صفات النهد الذي يتغنى به ذواقة الجمال. دقة التصوير يتبينها من يدقق في تأمل الصورة. ثم ينتقل إلى العيون: عين العَنُود وطالعت زَوْل تَفَّاق في عثعث ما دوَّجَتْ فيه الاوناس خده يضيح وكن بالصدر بَرَّاق وصفه غريب وكامل زين الاجناس والعنود قائد الريم والظباء سميت عنوداً لأنها لا تخضع ولا تستسلم، وعيون الظباء شغلت شعراء العربية ولكن العنود من الظباء لم يحفل بها غير الشعر الشعبي، نسبة إلى الحرائر اللائي يقفن دون ارادتهن. وعين العنود تأخذ شكلا ينشر الحذر ويلفت الانتباه إذا أحس بخطر داهم وتبرز جماليات العيون في هذه المواقف بروزاً يقابل الذبل من العيون، والتفاق هو القناص وفق السياق وإن أشار المؤلف إلى أنها كلمة تركية بمعنى الذخيرة. عنود الظباء لم يحفل بها غير الشعر الشعبي والعثعث الأرض الخالية من الناس ومما يؤنس أطيارها وظباءها، ودوجت من التجول. والخد وضاءة واضحة لا يشغل عنها غير وضاءة الصدر التي تطل من بين الملابس اطلالة البرق من بين السحب، ولهذه اللمحات عن الجوانب المستورة إثارة شعرية وتصوير لجمال غير متاح للانظار. ثم يجمل الوصف بأنها نادرة في بيئتها وبين أترابها لأنها كاملة الاوصاف يؤكد ذلك باجماله أيضاً: أشكال بك من جملة الزين وارناق من حد أقدامه إلى مفرق الراس فهو لم يكتف بكامل الأوصاف بل أجمل من الأقدام إلى الرأس، ثم يتناول بعضا من معايير الجمال الفاتنة فيما بقي من مواطن الجمال في جسد المرأة: وَسْط كما الخاتم به السَّيْر خفَّاق وردف كما العرنون من حد الاطعاس ومجدَّلات فوق الامتان دِلاَّق مثل الجريد اللي من الفرع نِكَّاس راعي ثمانٍ صَفْ ما بينها فراق كالقحويان بغب الامطار شمّاس يزهن شفايا ذِبَّلِنْ ما به ارياق كالدَّيْدحان ولا بهن دَقْ الاوراس هذه معايير جمال المرأة لدى الفياض الغناء، خصر نحيل لا يضيق به الحزام، وردف بارز كالكثيب من الرمال التي تشكل منها الرياح مناظر خلابة من حيث البياض الممزوج بحمرة، المنساب بدون عكل أو تعوجات. والهيام بالأرداف مرده إلى أمرين التشكيل الكلي للمرأة من حيث تناسق جسدها، والرمز للرفاهية التي تعيشها المرأة في مجتمعها، ويمكن إضافة الحركة التي يثيرها البروز والحيوية المجسدة للأنثى. ثم ينتقل الشاعر إلى وصف الضفائر المتهدلة على الامتان ممتدة إلى الارداف كجريد النخل الذي يغطى قامة النخلة. أما الاسنان الثماني المنتظمة مثل زهور الربيع عندما تشرق عليها الشمس غب يوم مطير، هذه الثماني اللائي تشرق عند الابتسام فتزيد الشفاه اللمى الذابلة جمالاً بخلاف «البراطم المسعبلة» والعرب تمقت سيلان اللعاب. ويضيف إلى ذبول الشفاه امتزاجها بالديدحان وهو من زهر الربيع هذه الشفاه ذات الجمال الطبيعي الذي قال عنه المؤلف: إن تلك الأسنان تزدهي بين هاتيك الشفتين الذابلتين... وهما حمراوان مثل لون زهر الديدحان وليس بهما لون من الورس الذي تجمل به الشفاه، والورس صبغة. وقد سبق المتنبي في وصف البدويات: من الجآذر في زي الاعاريب حمر الحلي والمطايا والجلابيب أفدي ظباء وفلاة ما عرفن بها مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب ذلك هو الجمال الطبيعي البعيد عن محسنات ومجملات المدينة، فلسن في البادية في حاجة إلى ذلك. ثم يعطف الشاعر إلى وصف أخلاق من يهيم بها، والأخلاق عنصر هام من عناصر الجمال، وقد راعاه كثير من شعراء العربية: ألاّ ولا سولف كل بها ملاّق جسم عفيف ولا ضرب درب الادناس هنَّيْتَ من قبل الوفا ريقها ذاق يقطف عسل حمر الشفايا والامراس والله كريم وريِّف الوجه رزاق يفرج لقلب ذاق لوعات الاتعاس الملاّق: السفيه المتملق، أي أن حتى هذا الصنف من البشر لم يجد سبباً للحديث عنها بسوء، فهي عفيفة الجسد ولم تطرق دروب السفه والمشين. وهو يهنئ من استمتع بها قبل مغادرة الحياة وتذوق حلاوة الحمراوين الممزوجة بالعسل. ولا يتفاءل بأن يكون هو ذلك الذي تدلف إليه التهاني إلا رحمة من ربه فهو القادر على ارسال الفرج إليه تعويضا له عن ما عاني من التعاسة والمعاناة. أتينا بهذا المثال لمحاور الغزل في أدب البادية الشعبي، ولمحت إلى الصور والتشبيهات المستلهمة من البيئة والتي سنفتقدها مع انحسار الشعر الشعبي، وافتقادها يغرب الذوق المأثور عن هذا الشعر، والعتيبي من شعراء الجبل الذين انطبع شعرهم برحابة أخلاق تلك الديار وجزالة شعرهم المتميز بالجزالة ودقة التعبير والتصوير.