كل إنسان في هذا العالم لديه موقف يستحق الرثاء لا يعلم ماذا كتب الله له، ويجهل مصيره مهما عمل وتبقى المصادفة. إن أهم ما لدى الإنسان حدثان هما يوم ميلاده ويوم وفاته لا يعلم عنهما أي شيء، يسير الإنسان نحو اليوم الذي يكرهه تاركاً وراءه اليوم الذي يتمنى أن يكون فيه سريعاً تمر سنوات الحياة، مؤلمة نعيشها في هذا الزمن الصعب، وفي لحظة تأتي ثانية الموت. فتتلاشى أنفاسنا وتموت أحلامنا وينتهي ألمنا ولكن رغم ذلك يبقى العمل الصالح والذكر الحسن. قبل أكثر من نصف قرن باشرت عملي مدرساً بالمدرسة الخالدية بحي المرقب بالرياض وبالتحديد بتاريخ 22/4/1381ه - 1961م. دلفت إلى المدرسة بورقة ذيلت بتوقيع مدير التعليم في نجد لا أتذكر اسمه، سلمتها إلى مدير المدرسة أمرني بالجلوس، رحب بي كثيراً، أمر لي بكوب من الشاي، أمسك بيدي طاف بي على فصول المدرسة وهو يعرفني بالمدرسين والطلاب. ومضت السنوات الطوال أكثر من 26 عاماً قضيتها بالمدرسة معلماً ثم مراقباً ثم وكيلاً بجانب ذلك الإنسان الذي توفاه الله بعد أن خرَّج أجيالاً من رجال التعليم، تبوأ مناصب قيادية في هذا البلد الحبيب. إنه المربي الفاضل وناشر الفضيلة الأستاذ سعد بن عبدالله الدلقان مدير المدرسة الخالدية بالرياض الذي ودعنا إلى رحاب الله يوم الاثنين الموافق 12/6/1434ه كنا خليطاً من المدرسين والطلاب أعمارنا لا تتجاوز العشرين عاماً نتجول في ممرات المدرسة الضيقة وغرفها الصغيرة وكان مديرنا سعد الدلقان رحمة الله عليه يحاول أن يزرع كل يوم بذرة حب ومحبة وغصن إخلاص ووفاء في عقل كل من لديه بالمدرسة وفعلاً أثمر هذا الزرع ونما وترعرع، لم يمت الغصن عطشاً ولم يذبل الزرع ولم تمت الورود التي غرسها، بل مات صاحبها ومهندسها. خيالك في عيني وذكرك في فمي ومثواك في قلبي فأين تغيب أتاني خبر وفاته فلجأت بعد الله إلى الدموع ولكنها لم تسعفني، ونحن نعلم أن شر الدمع هو ما كان لدينا عصياً، كما نعلم أيضاً أن أقسى الحزن هو ما كان مكبوتاً ودفيناً في دواخلنا كما قال أحد الشعراء. وما قصَّرت في جزع ولكن إذا غلب الأسى ذهب البكاء ولا ننسى قول الشاعر العراقي الجواهري: وحين تطغى على الحران جمرته فالصمت أفضل ما يطوى عليه فم يا معلم الأجيال ما أعظم مصابي بك، وما أشد حزني عليك ولكن كما قيل: إلى الله أشكو لا إلى الناس إنني أرى الأرض تبقى والأخلاء تذهب أخلاي لو غير الحمام أصابكم عتبت ولكن ما على الموت معتب لقد كنت في حياتك على جوانب عظيمة من الشهامة والمروءة والاخلاص والحكمة ومساعدة الآخرين، كنت مستخفاً بالشدائد ومعتمداً على نفسك بعد الله وكنت مستهيناً بالمادة تنفقها في سبيل الله. لقد زاملتك طيلة 26 عاماً داخل المدرسة الخالدية بالرياض وخارجها وكنت لي القدوة الحسنة ومضرب المثل في تحمل الشدائد مع الرضاء بما يقدره الله. كنت مديراً ناجحاً تقابل مشاكل الطلاب بابتسامة محببة إلى أصحاب النفوس القوية متمثلاً بقول الجواهري: ترفق أيها المولى عليهم فإن الرفق بالجاني عقاب كنت نموذجاً لأجيال من رجال العلم والمعرفة. لن أبالغ إن قلت إنك كنت تنفرد في مجتمعك بالشهامة والحكمة والترفع عن الأحقاد في وقت الشدائد. وأخيراً كنت رائعاً في حياتك كما كنت رائعاً في مماتك. فوداعاً أيها النبيل..