بدأت الاستعدادات لتنظيم استفتاء حول الدستور العراقي الجديد في تشرين الأول- أكتوبر المقبل .وينص قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية الذي تبناه مجلس الحكم الانتقالي على أن تتم المصادقة على الدستور بالأغلبية المطلقة شرط الا ترفضه ثلاث من المحافظات الثماني عشرة في البلاد بأغلبية الثلثين. وإذا تمت الموافقة على الدستور فستجرى انتخابات جديدة للجمعية الوطنية الدائمة منتصف كانون الأول ديسمبر المقبل. وينتظر الآن أن تعد الجمعية الوطنية السؤال الذي سيطرح في الاستفتاء ليرد عليه الناخبون بنعم أو لا. وقد جاءت هذه التطورات في وقت حثت فيه المجموعة الدّوليّة لمعالجة الأزمات العراقيين على عدم استعجال كتابة الدستور، مقترحة التريث حتى 15 شباط - فبراير 2006. ورأى تقرير صادر عن المجموعة أن العراق يواجه حاليا معضلتين هما: إما استعجال كتابة الدستور خلال المهلة الحالية التي تنتهي ب 15 آب - أغسطس القادم لمنع الجماعات المسلحة من تسجيل نِقَاط سِيَاسِيَّة إضافيّة، أو تشجيع عمليّة جماعيّة شَامِلَة وَشَفَّافَة في مجهود لزيادة التقبل الشعبيّ للمحصلة النّهائيّة. وبينما هناك جوانب سلبية للتّأخير، لكنها - حسب التقرير - أقل بكثير من سلبيات وأخطار عملية استعجال الدّستور الذي سيؤدي إمّا إلى الرّفض الشّعبيّ للوثيقة أو إلى الفتور الشعبي العامّ نحوه . ويمكن القول ان عملية كتابة الدستور تمثل واحدة من اكبر التحديات التي تواجهها العملية السياسية الجارية في العراق، بل هي معركة سياسية واجتماعية كبرى يتوقف على مآلها، ومدى نجاحها، مصير العراق ووحدته الوطنية على مدى عقود قادمة. بيد أن هناك من يرى اليوم أن الدستور المزمع لم يعط للدولة والمؤسسات نفس ما أعطي للمجتمع. وذهب هذا البعض للقول بأفضلية تسميته بقانون إدارة المجتمع وليس قانون إدارة الدولة. وقد تجلت العقبات الأساسية في صياغة الدستور في ثلاثة أمور هي مدى علاقة الدين بالدولة، حيث يعتبر الإسلام مصدر تشريع وليس المصدر الوحيد. والفيدرالية والتي لم يتم بعد الاتفاق على كيفيتها، إضافة إلى القوميات، حيث تعتبر مشكلة كركوك هي الأهم من بين هذه المعضلات. على صعيد قضية العلاقة بالإسلام، يرى همام حمودي رئيس لجنة صياغة الدستور، أن الدور الذي سيلعبه الإسلام في الدستور سيكون مماثلا للوضع الحالي المنصوص عليه في قانون إدارة الدولة، الذي أشرفت عليه الولاياتالمتحدة وبريطانيا والذي من المقرر أن يحل الدستور محله. وليس من الواضح ما إذا كان حمودي قد هدف من تصريحاته هذه بصفة أساسية توجيه رسالة طمأنة للعالم الغربي، وتحديدا الولاياتالمتحدة. بيد أن الثابت أن قضية المرأة والنصوص المتعلقة بها قد مثلت أولى التحديات أمام الدستور الجديد على صعيد مستوى تماهيه مع الخيارات الإسلامية. وهذا الأسبوع، حذر وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد بأن العراقيين سيرتكبون «خطأ فادحا» اذا ما تبنوا أي دستور يحد من حقوق النساء. وقال رامسفيلد خلال مؤتمر صحفي عقده يوم الأربعاء الماضي في مقر وزارة الدفاع (البنتاغون) «اعتقد شخصيا أن أي دولة لا تشرك نصف سكانها بشكل معقول ترتكب خطأ فادحا فيما يتعلق بمستقبلها وآمالها وفرصها.» وكان رامسفيلد يرد على أسئلة بشأن احتمال أن يستند الدستور العراقي بشكل كبير على الشريعة الإسلامية وإمكانية انتقاصه لقضية «المساواة بين النساء والرجال». وقال رامسفيلد «الموضوع الذي طرحتموه هو أمر يثير قلق وزارة الخارجية الأميركية والبيت الأبيض إلى جانب الشعب العراقي. بالطبع أنا واع بالأمر.. وهو لا يقع ضمن دائرة مسؤوليات وزارة الدفاع». وكانت صحيفة «نيويورك تايمز» ذكرت في اليوم نفسه أن المسودة الجاري صياغتها ستمنح دورا قويا للشريعة الإسلامية ويمكن أن تحد من «حقوق النساء» بشكل كبير خاصة في الطلاق والميراث. وقالت الصحيفة إن من بين المواد المثيرة للجدل المادة الرابعة عشرة المتعلقة بالأحوال الشخصية مثل الزواج والطلاق والحضانة، حيث تنص المادة على أن تخضع تلك الإجراءات للمذهب الذي تنتمي إليه الأسرة. ورأت نيويورك تايمز أن تبني هذه المادة يعني إلغاء «واحد من أكثر المواد تقدما» في دساتير المنطقة التي سنت في العام 1959 والتي كانت تسمح للمرأة العراقية باختيار شريك حياتها وكذلك طلب الطلاق لدى المحكمة. وكان قانون إدارة الدولة قد استبعد بشكل واضح المادة 137 التي كانت ستحيل الأمور الخاصة بالأسرة لمحاكم دينية. وثمة جماعات نسائية عراقية تطالب بصريح العبارة بقانون طلاق مماثل لذلك الموجود في الغرب . وإضافة للقضية المتعلقة بقانون الأحوال الشخصية، تمت إثارة حصة المرأة في المؤسسات الدستورية العراقية، فالمنظمات النسائية العراقية تطالب بأن ينص الدستور على مبدأ التمثيل النسبي للمرأة في البرلمان بنسبة لا تقل عن 40٪. وكذلك زيادة نسبة تمثيلهن في الوزارة وفي الأجهزة الحكومية الأخرى .وقد تم وجود المرأة في الجمعية الوطنية الحالية على أساس نسبة 25٪ ، كما سارت هذه النسبة أيضا في الوزارات وباقي مؤسسات الدولة الأساسية. وثمة قضية ثالثة مثارة على صعيد ملف المرأة ، تتمثل في المطالبة بمنح الجنسية لأولاد المرأة العراقية المتزوجة من أجنبي. على الصعيد السياسي، تمثل قضية الفيدرالية الملف الأكثر سجالية والأكثر خطورة في الوقت نفسه، فالفيدرالية قد لا تهدد وحدة العراق الترابية على المدى البعيد، خلافا للمخاوف السائدة بيد أنها تهدد بتمزيق الوحدة الوطنية والتعايش الوطني العراقي، إن بقيت الأمور سائرة على هذا النحو من الهلامية وتزايد التفسيرات والتعريفات. إن هذا الوضع يهدد اليوم بتقاطب شعبي كردي عربي غير مسبوق في تاريخ العراق، كما يهدد بانقسامات بعيدة المدى والعواقب بين القوى السياسية الداخلة في العملية السياسية، وهو انقسام من شأنه أن يطيح بآخر ما تبقى من مظاهر التوحد ضمن الفرقاء العرب أنفسهم. ومتى حدث ذلك، فسوف يتعمق الاصطفاف الطائفي ويتنامى الإحساس بالغبن والتهميش لدى فئات من العراقيين، قد تنظر إلى العملية على أنها شكل من الخذلان من قبل فريق تربطهم وحدة انتماء قومي. وهذه قضية بالغة الخطورة دون أدنى ريب. لا يفهم من هذا الكلام على أن كاتب هذه السطور ضد الفيدرالية كخيار وطني يمكن التوافق عليه بعد بحث كافة تفاصيله وحيثياته، إلا أن ما يدور الآن هو زحام فكري على قدر كبير من الهلامية. وفي هذا الشهر، استكملت اللجنة الكردية المكلفة بمتابعة عملية صياغة الدستور العراقي الجديد مشروعها الخاص الذي يعبر عن رؤية الأكراد للدستور العراقي القادم، وقد حملوا نص المشروع الى بغداد لتقديمها الى الرئيس العراقي جلال طالباني وأعضاء الكتلة الكردية في البرلمان ولجنة صياغة الدستور للعمل من أجل تضمين الدستور القادم المطالب الكردية ورؤيتهم للإطار الشامل للعملية السياسية في العراق. لقد ذهب المشروع الكردي إلى أبعد من الخيار الفيدرالي الذي بات بالنسبة من المسلمات التي توافق عليها عدد من الفرقاء العراقيين منذ سنوات، وبالذات منذ مؤتمر لندن للمعارضة العراقية، التي باتت اليوم في سدة الحكم. فقد رأى المشروع أن من حق الشعب الكردستاني تقرير مصيره عن طريق استفتاء شعبي عام لتحديد وضعه الدستوري في المستقبل بعد مرور 8 سنوات من العمل بالدستور، أو في حالة تغيير النظام الفيدرالي أو استقطاع أجزاء من أراضي كردستان «المعروفة تاريخيا وجغرافيا بتبعيتها لكردستان» أو في حالة تعرض الأكراد الى العداء أو القمع مرة أخرى. وفي بعد سيثير الكثير من السجال الداخلي، يرى المشروع الكردي أنه بالنسبة للأقاليم الواقعة على الحدود مع دول أخرى، تتولى قوات دفاع وطني حماية حدودها تسمى ب(الحرس الوطني الإقليمي) وتتحدد مهامها بحماية حدود الدولة الفيدرالية ومحاربة الإرهاب ودعم القوات الفيدرالية عند الحاجة، وتنظم أمور هذه القوات بقانون من البرلمان الإقليمي يحدد نوع وعلاقة تلك القوات بوزارة الدفاع العراقية. وهذا يعني ببساطة أن الأكراد هم من يتولون مسؤولية أمن الحدود العراقية مع كل من تركيا وسورية وجزء من الحدود مع إيران. ونظير ذلك القول ان قوات منظمة بدر التابعة «للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية» في العراق هي التي تتولى أمن حدود العراق الجنوبية، في حال انتهى هذا الجنوب للسير خلف الخيار الفيدرالي. لا ريب أن الساسة العراقيين عليهم التفكير ملياً وهم يستقبلون الدعاوى والمطالبات الإقليمية التي انفتحت ولم يعرف بعد كيف ستنتهي. وإذا كان شركاء الأكراد في الحكم قد رفضوا فكرة أي انفصال مقنن للشمال العراقي، فعليه أيضا أن التفكير مرتين في كل ما يتعلق بمقولات الفدرلة والأقلمة. وكان البرلمان الإقليمي الكردستاني قد تبنى بتاريخ السابع من تشرين الثاني نوفمبر من العام 2002، مقترح مشروع دستور فيدرالي للعراق، نص ضمن أمور أخرى على أن الجمهورية الفيدرالية العراقية تتكون من الإقليم العربي، ويضم المنطقتين الوسطى والجنوبية من العراق ومحافظة الموصل في الشمال باستثناء الأقضية والنواحي ذات الأغلبية الكردية، ومن إقليم كردستان، ويضم محافظات كركوك والسليمانية واربيل ودهوك وأقضية عقرة وشيخان وسنجار وتلعفر ونواحي زمار وبعشيقة والقوش واسكي كلك من محافظة الموصل وقضائي خانقين ومندلي من محافظة ديالى بحدودها الإدارية قبل العام 1968 والمناطق الأخرى التي تقطنها أكثرية كردية. ومن الواضح أن النظام الفيدرالي المزمع قد فصل حينها على أسس عرقية بحتة، وجاء بالتالي غير متوازن ومثيرا للشقاق. كما ان الإطار الجغرافي لكردستان بدا في هذا التقسيم أكثر إثارة للسجال . وهو من شأنه إثارة وتغذية توترات عرقية كامنة في كردستان وما جاورها. ونص مشروع المشروع الكردي أيضا على أن من حق سلطات الإقليم عقد الاتفاقات الاقتصادية والثقافية والرياضية مع الأقاليم الأخرى داخل العراق وخارجه .وان لكل إقليم حصة من عوائد الثروة النفطية ورسم الجمارك والمنح والمساعدات والقروض الأجنبية حسب نسبة عدد سكانه إلى مجموع سكان البلاد. ويعين مواطنو إقليم كردستان في المناصب الهامة في الوزارات والهيئات الاتحادية في الداخل والخارج وخاصة وكلاء الوزارات والدرجات الخاصة والمديرين العامين وذلك حسب نسبة سكانه الى مجموع سكان الجمهورية الفدرالية العراقية. وتكون قوات البيشمركة وتشكيلاتها الحالية جزءا من القوات المسلحة لإقليم كردستان، ويؤدي أبناء كل إقليم الخدمة العسكرية في إقليمهم. بيد أن هذا التحديد الكردي للحقوق والصلاحيات الإقليمية سيخلق توزيعاً غير متوازن للثروة الوطنية العراقية، ويمنح محاصصة عرقية غير متوازنة على صعيد المناصب السيادية والإدارية، غير متوازنة لأن الطرف الآخر في المعادلة القومية، أي العرب، منقسمون إلى جناحين مذهبين، يطالب كل منهما بحقوق ودعاوى. والمحصلة ستكون غبنا لأحد الفرقاء العرب، حيث ان القسمة بدأت على أساس عرقي مبطن ديموغرافيا، لكنها ستنتهي طائفية مبطنة مناطقيا، حيث ان التموضع المذهبي هو في العراق تموضع مناطقي في الوقت نفسه، وهذه إحدى معضلات التاريخ. من جهة ثالثة، نص المشروع الكردي على إلغاء جميع القوانين والقرارات والمراسيم والأوامر والأنظمة والتعليمات الصادرة عن السلطات المركزية والمتعلقة بعمليات التطهير العرقي والتهجير والترحيل. وتزال آثار تغيير الواقع القومي الذي تم تنفيذه في مناطق من إقليم كردستان ويعاد المواطنون الكرد من مناطق محافظة كركوك ومخمور وسنجار وزمار وشيخان وخانقين ومندلي وغيرها إلى أماكن سكناهم السابقة ويعاد المواطنون العرب الذين تم إسكانهم من قبل السلطات العراقية السابقة في تلك المناطق إلى محلات سكناهم السابقة خارج إقليم كردستان . ولا ريب أن هذه العملية هي في جوهرها تصفية حسابات مقننة، وهي إن تم اعتمادها على النحو المطالب كرديا فلن تعني سوى إشعال فتيل توترات عرقية مذهبية مناطقية مشتركة في الشمال العراقي لن يعرف أحد مدها ومنتهاها. وحيث ان لكل فعل رد فعل يعادله في الوقت ويعاكسه في الاتجاه، فإن الدعاوى القومية والتاريخية الكردية انعكست في صورة مطالب ودعاوى مماثلة لدى أقليات عراقية أخرى، ربما أبرزها التركمان والآشوريون . ودعونا نقرأ ما يقوله كاتب آشوري. يقول هذا الكاتب في مقال نشر على أحد المواقع العراقية : «ان علم الآثار يسند 65 بالمائة من المواقع الأثرية والموروث الحضاري الإمبراطوري إلى المرحلة الآشورية مما يدعونا إلى إثبات شخصيتنا القومية كآشوريين تاريخيا وحاضرا ومستقبلا». بعد ذلك يدعو الكاتب إلى «الاعتراف بالحقوق القومية للشعب الآشوري كشعب أصيل وأساسي وباني حضارة مابين النهرين واعتباره القومية الأم.والاعتراف باللغة الأشورية كلغة أصلية أساسية لبلاد مابين النهرين». ويطالب الآشوريون بوقف كل الإجراءات والممارسات «التي تحرف الحقائق التاريخية والكف من إجراءات التعريب والتكريد» وإعادة الممتلكات والأراضي والقرى الآشورية لأصحابها الشرعيين .كما يطالبون ببث برامج في وسائل الاعلام الرسمية للدولة باللغة الآشورية. كما يدعون إلى إعادة كتابة التاريخ العراقي، خصوصا في المناهج الدراسية، بما يوضح «المنجزات الآشورية المقدمة للعراق والعالم ودور هذه الحضارة في تطور البشرية». ولا جدال بطبيعة الحال، في شرعية مطالبة قومية ما بحقوقها الوطنية، لكن ما نشهده اليوم في العراق يمثل شكلا متقدما من المحاكاة وصدى الأفعال. وهذه قضية تسير في الاتجاه المقابل تماما لشروط الوحدة والتعايش الوطني، الذي نأمل أن يدرك القائمون ما يعنيه لمستقبل العراق واستقراره، كما بالنسبة لشعوب المنطقة وأمنها.