تقول العامة ( إلى نويت شجرة وإلى ناويها عشرة) يضربون هذا المثل لمن يؤم أمراً فيجد غيره قد سبقه إليه. وهذا ما حصل لي أثناء إعداد هذه المقالة. ففي 12/6/1426ه الموافق: 1/7/2005م، وفي صحيفة الجزيرة الصادرة في اليوم نفسه قرأت للصديق عبدالله بن سعد الرويشد حديثاً عن أبي عمر يوسف بن عبدالبر، وكنت أعددت حديثاً عن أشياء تتصل بأبن عبدالبر وقصيدته الرائية، فلما قرأت العنوان قلت كفاني الصديق هذا الأمر، فلما قرأ لي ما كتب وجدت اهتمامه ينصب على الرجل ذاته وشيء من عرض لقصيدته الرائية فقلت أتم ما بدزه الشيخ الصديق، لكن لم أنس نفسي ولم أنس مثير الكتابة لدي، غير أني أعرضت عن سيرة الرجل، لا زهداِ فيها ولكن لأن السالفين قد وفوه حقه، هذه ناحية والناحية الأخرى أن الترجمة لم تكن من مقاصدي في هذا الحديث، فكأن الشيخ عبدالله يقرأ ما في نفسي فصنع تلك الترجمة التي أحسن فيها كل الإحسان، وإن أتى حديثي متمماً في بعض جوانبه لما سبق إليه الشيخ عبدالله، ولذا كانت البداية عندي عن السيرة الذاتية وما فيها من ذكرايات ترويها الذاكرة أو المذكرات. وهي في حقيقتها شيء من التاريخ، وشيء من الأدب فهي مثل ما تروي أحداثاً تاريخية تصور كذلك قصة حياة إنسان من الناس راقة إشراك الآخرين في تصور أحداث حياته فكانت تلك السيرة الذاتية كما يسمونها. لكن ما منزلة السيرة الذاتية من الصدق الموضوعي والكذب الموضوعي أيضاً؟. وهل تختلف عن التاريخ في هذا؟ إن كاتب السيرة الذاتية هو الذي يكتب التاريخ، لكن ربما كانت السيرة الذاتية أقرب من التاريخ إلى الصدق لأن الإنسان الذي يكتب سيرته لا يمكن أن ينسب إلى نفسه الكذب، إلا نادراً لعلمه بأن هذا الكذب سوف ينكشف في يوم ما ومتى عرف ذلك عنده أسقطت روايته عن نفسه وعن غيره. لكن ما شأن ذلك كله وما لم أدونه من مذكراتي وأحداث حياتي؟ ذلك مانسيته من ذلك، وهو ما يذكرني به أبنائي بين الحين والحين، وهذا ما أعرفه عن نفسي سلفاً أن يفتني رصد أشياء من الأحداث ذات الأهمية ثقافياً لكونها مبلغ اهتمام الطلبة بالبحث فيما قبل أربعين سنة تقريباً، وكيف كان تعامل أساتذتهم معهم، وإن شئت فقل بعضاً منهم، ولست بذلك أثني على نفسي، ولكني أذكر واقعاً كنت عليه مع أبنائي الطلبة نسيته فذكرنيه أحد فضلائهم وهو صاحب المعالي فضيلة الدكتور عبدالله بن سماحة شيخنا محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله. ففي يوم الثلاثاء: 6/6/1426ه الموافق: 12/7/2005م وفي مجلس صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء رئيس الحرس الوطني لقيت معالي الدكتور عبدالله فكان طبعياً أن يتجاذب الجاران أطراف الحديث ريثما يأتي الأمير فكان طبعياِ أن يجر الحديث إلى ذكر شيء من سيرة سماحة شيخنا محمد بن إبراهيم رحمه الله. وفي هذا ذكرني معالي الدكتور/ عبدالله شيئاً مما نسيت إيراده فيما كتبت من أحداث حياتي هذه التي تجاوز ما كتب منها على الكمبيوتر 1500 صفحة، وهذا يعني أني قد نسيت كثيراِ من الأحداث التي تستحق الذكر، ومنها ماذكرني به الدكتور/ عبدالله، وكان إذ ذاك من أبنائي الطلبة، وكذلك القصة التي ذكرني بها، وخلاصة تلك القصة أني أتيت في أحد الدروس بمجموعة من الكتب وضعتها أمام الطلبة وقلت: هذه جائزة لمن يأتيني بقصيدة أبن عبدالبر الرائية التي مطلعها. من ذا الذي قد نال راحة فكره في عمره من عسره أو يسره قال الشيخ الدكتور: ( فذهبت إلى أبي، يعني سماحة شيخنا محمد بن إبراهيم، وكان في المستشفى يعالج من الصفرة «الشغار» فسألته عن القصيدة فقال لا أعرفها، فذهبت أبحث عنها فلما وجدتها ذهبت بها إلى أبي فسر بذلك لأنه وجد في ابنه باحثاً جاداً). وقال وكنت تقول لنا من أتاني ولو ببيت واحد لحمد الحجي وليس فيما عندي أعطيته مثل هذه الكتب، لقد كانت ساعة ممتعة جلنا فيها عبر أحاديث ذات طابع علمي وأدبي ربما كانت فائدتي منها أكبر لأنها ذكرتني أشياء مما نسيته. بعدها صرت أفكر كثيراً فيما فاتني رصده من أحداث حياتي وراقتني الكتابة في أمرين أولهما الكتابة عن إبن عبدالبر وقصيدته، وثانيهما أن أخاطب أبنائي الطلبة وهم كثر طالباً منهم أن يكتبوا لي ما يذكرونه من تلك النوادر من الحكايات والقصص منذ بدأت العمل مدرساً، ومنه ما كان في أيام الطلب كالمدرسة التي أنشأتها لتعليم المكفوفين طريقة براين، وكذا المدرسة الليلية التي أنشأتها ونفر من زملائي فالتحق بها رجال كثيرون منهم من هدفه الحصول على الشهادة الإبتدائية. ولما كانت القصيدة قد أوشكت على أن تكون مدار الحديث فإن من حقها وحق ناظمها الشيخ/ يوسف بن عبدالبر أن يكون لهما النصيب الحسن في هذا الحديث، ولنبدأ أولاً بالحديث عن ناظم هذه القصيدة الشيخ العالم المحدث الفقيه المتميز الذي أعجب به أهل زمانه ومن أتى بعدهم من العلماء وطلاب العلم، كما ترجم له كتاب السير والرجال بعامة وتحدث عنه المتأخرون ململمين كل ما يتصل بحياة يوسف بن عبدالبر - رحمه الله -. على أن الترجمه للشيخ أبن عبدالبر ليست من مقاصدنا هنا، غير أن الواقع لا يجيز لنا الإعراب عن ذكر الشيخ ما دامت قصيدته هي منطلق هذا الحديث. فمن هو أبن عبدالبر هذا الذي ملأ سمع الدنيا وبصرها وبخاصة في بلاد الأندلس. هو أبو عمر يوسف بن عبدالله بن محمد بن عبدالبر بن عاصم النمري القرطبي إمام أهل عصره في الحديث والأثر وما يتعلق بهما. قال القاضي أبو علي أبن سكرة: سمعت شيخنا القاضي أبا وليد الباجي يقول: لم يكن بالأندلس مثل أبي عمر ابن عبدالبر في الحديث. وقال الباجي أيضاً: أبو عمر أحفظ أهل المغرب، وقال أبو علي الحسين بن أحمد بن محمد الغساني الأندلسي الجياني: ابن عبدالبر شيخنا من أهل قرطبة دأب في طلب العلم وأفتن فيه وبرع براعة فاق فيها من تقدمه من رجال الأندلس، وألف في « الموطأ» كتب مفيدة منها (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد) وهو كتاب لم يتقدمه أحد إلى مثله وهو سبعون جزءً، ولأبن عبدالبر مؤلفات أخرى كثيرة جلها من الطوال. وكان الشيخ ابن عبدالبر قد ولد في يوم الجمعة والخطيب يخطب في اليوم الخامس والعشرين من شهر ربيع الثاني سنة 362ه وقيل 368ه ، أما وفاته رحمه الله فكانت في شاطبة في شرقي الأندلس في آخر ربيع الآخر سنة 463ه ، وتحدثوا عن شيوخه وعن طلابه وأطالوا في ذلك مثلما تحدثوا طويلاً عن مؤلفاته التي تجاوزت 50 كتاباً، وذكروا أنه أخذ العلم عن أكثر من مائة عالم ( وصنف في القراءات والحديث والفقه والتاريخ والأدب والشعر وغير ذلك). أما شعره فمن ذلك الذي يسمونه (شعر العلماء) وليس بالمكثر فيه، مع أنه لم يكن له ديوان، ولست أدري ما إذا كانت مقطعاته المبثوثة في مؤلفاته يمكن أن تكون ديواناً، على أن أهم ما نظم تلك المطولة التي بها اشتهر في الميدان الشعري وإن لم يكن شاعراِ وهي قصيدة حسنة الموضوع وإن لم تلبس ملاءة الشعر وتلك طبيعة شعر العلماء وإن اجتهدنا محاولين نفي ذلك عنه، غير أن هذا لا يعني أن جميع شعر العلماء كذلك، إذ أن فيهم شعراء محسنين مثل الأرجاني في المتقدمين وأبن عثيمين والشيخ محمد عبدالمطلب في المتأخرين. وهناك من هو وسط بين هؤلاء وأولئك كمثل الإمام الشافعي في المتقدمين والإمام الصنعاني في المتأخرين، وليس المقام مقام الحديث عن شعر العلماء وإلا لقلنا فيه ما يشفي الصدر، فلندعه لحينه وإن كان قد سبقت لي فيه أحاديث، لنعد إذاً إلى رائية ابن عبدالبر. وأول ما يجب التنبيه عليه هو ذلك الفهم السيىء لتلك الكنية « عبدالبر» حيث ظن بعض الجاهلين أن « البر» هنا يعني اليابس الذي لا بناء فيه ولا زراعة ولا أي لون من العمران، في حين أنها كعبد الجليل وعبدالكريم وعبدالرحيم ونحو ذلك قال سبحانه وتعالى:(إنه هو البر الرحيم). وكان الأولى أن يأتي هذا التنبيه في صدر الحديث ولكن هكذا كان قدره وإن كان مجيئه في أي موضع من الحديث غير نافر. أشتهر ابن عبدالبر في الناس محدثاً أكثر منه فقيهاً وأشتهر فقياً أكثر منه أديباً ومؤرخاِ، ولكنه كان عالماً موسوعياً كما تدل على ذلك مؤلفاته التي أسلفنا ما يشير إلى عددها فلعنا نعود إليها في بعض من أحاديثنا، ذلك أن كل واحد منها محتاج إلى أكثر من وقفه معه فلنعد إلى ما نحن فيه من أمر هذه القصيدة التي كلما أقبلنا عليها أخذتنا منها فكرة لا تبعد عن الموضوع. 1- الأبيات الخمسة الأولى من هذه القصيدة تصور حال الدنيا وأن كل الناس فيها من المتعبين فلا غني أراحه غناه ولافقير قنع بما أدرك، وهذا يصوره الشاعر في الأبيات الخمسة الأولى: من ذا الذي قد نال راحة فكره في عمره من عسره أو يسره يلقى الغني لحفظه ما قد حوى أضعاف ما يلقى الفقير لفقره فيظل هذا ساخطاِ في قله ويظل هذا تاعباً في كثره وعبوس وجه الدهر من أخلاقة فاحذر مكائده وعاجل شره فهو المنافق لا يزال مخادعاِ حتى يورط في حبائل مكره 2- وفي اثنين وعشرين بيتاً يصور الشاعر اختلاف الناس في معاشهم وفي أحوالهم مستخلصاً من ذلك هي من أغلى وأنفس الحكم. صحيح أنها أبيات ليس فيها من اسم الشعر غير وزنه وقافيته ولكنها حكم ملاح غنية بالنصح والإرشاد الذي يأتي صريحاِ ولكنه يأتي من طريق تصوير ما عليه الناس انسهم وجنهم على حد سواء. عم البلاء لكل شمل فرقة يرمي بها في يومه أو شهره والجن مثل الإنس يجري فيهم حكم القضاء بحلوه ومره فإذا المريد أتى ليخطف خطفة جاء الشهاب بحرقة وبزجرة ونبي صدق لا يزال مكذباً يرمي بباطل قولهم وبسحره ومحقق في دينه لم يخل من ضد يواجهه بتهمة كفره والعالم المفتي يظل منازعاِ بالمشكلات لدى مجالس فكره والويل إن زل اللسان فلايرى أحداً يساعد في إقامة عذره أو ماترى الملك العزيز بجنده رهن الهموم على جلالة قدره فيسره خبر وفي أعقابه خبر تضيق به جوانب قصره ومآزر السلطان أهل مخاوف وإن استبد بعزه وبقهره فلربما زلت به قدم فلم يرجع يساويه قلامه ظفره فمثاله إلا كمثل سفينة في البحر ترجف دائماً من شره إن أدخلت من مائة في جوفها أدخلها وماءها في قهره فلو استمال إلى القناعة وأكتفى بسداد عيشته ورثة طمره وأخو العبادة دهرة متنغض يبغي التخلص من مخاوف قبره وأخو التجارة حائراً متفكراً مما يلاقي من خسارة سعره وأبو العيال أبو الهموم وحسره الرجل العقيم كمينة في صدره وكل قرين مضمر لقرينه حسداِ وحقداً في غناه وفقره ولرُب طالب راحة في نومه جاءته أحلام فهام بأمره والطفل من بطن أمه يخرج إلى غصص الفطام تروعه في صغره والوحش يأتيه الردى في بره والحوت يأتي حتفه في بحره ولربما تأتي السباع لميت فاستخرجته من قرارة قبره 3- وفي أبيات ستة يقدم لك خلاصة ما انتهى إليه فهمه وتأملاته فيرى الدنيا لاتساوي مايبذلة الإنسان في سبيلها، وقد ورد ( إن الدنيا لا تساوي عندالله جناح بعوضة) وهذه الأبيات: ولقد حسدت الطير في أوكارها فوجدت منها ما يصاد بوكره كيف التلذذ في الحياة بعيشة ما زال وهو مروع في أسره تالله لو عاش الفتى في أهله الفاً من الأعوام مالك أمره متلذذاً معهم بكل لذيذة متنعماً بالعيش مدة عمره لا يعتريه النقص في أحواله كلا ولا تجري الهموم بفكره ما كان ذلك كله مما يفي بنزول أو ليلة في قبرة 4- وفي النهاية يتساءل عن كيفية الخلاص من هذه الدنيا المتلونة غير المستقرة على حال فيقول: كيف التخلص ياأخي مما ترى صبراً على حلو القضاء ومره 5- وفي ختم القصيدة وهو ما يسمونه بالمقطع مايثبت استعمال بعض الشعراء وبخاصة شعراء العلماء منهم أنهم كانوا يختمون قصائدهم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على أن حسان بن ثابت رضي الله عنه قد سبق الجميع في ذلك بقوله: صلى الإله ومن يحف بعرشه والطيبون على المبارك أحمدا ولعباس بن مرداس رضي الله عنهم قول في ذلك، هو ما صار إليه الشعراء من بعد، وتجافى عنه شعراء العصر الحديث. أما قول أبن عبدالبر الذي ختم به قصيدته فهو: ثم الصلاة على النبي وآله مع صحبه والتابعين لأمره ٭ أستاذ الأدب والنقد والدراسات العليا كلية اللغة العربية بالرياض جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية