في المقال السابق كنا قد تحدثنا عن أوراق اللعب التي صنعتها في المنطقة من منظور أيديولوجي، كحزب الله، وهنا نستكمل سلسلة ايران منطلقين من نقطة مفصلية كان قد طرحها الأمير سعود الفيصل قبل فترة عندما شدد على تباين الموقف الإيراني بين الخطاب القولي، والممارسة العملية القائمة على التدخل المستمر والمتكرر في الشؤون الداخلية، واصفاً ضلوع إيران بتجنيد اعضاء الخلية التجسسية في السعودية ب"الموقف العدائي". واللافت في حديثه هو تأكيده لاتخاذ موقف متعدد المستويات لوأد هذه الأعمال التي تتناقض مع تصريحات طهران بتحسين العلاقات مع جيرانها في المنطقة. على ان علاقة العرب مع إيران عبر التاريخ فيها شيء من الريبة، بدليل رغبة الأخيرة في التوسع والتهديد، ناهيك عن خطابها الراهن الذي يفتقد الدبلوماسية واللياقة، وهي التي أعادت وضع الخيارات الأمنية والعسكرية في سلم الأولويات على حساب الاستحقاقات الداخلية من وضع اقتصادي متردٍ وانفجار سكاني وترهل تعليمي واجتماعي، وهو ما دفع دول المنطقة إلى عقد تحالفات وصفقات عسكرية مع الغرب خشية التهديدات الإيرانية. ولذلك من الطبيعي أن تثار حفيظة الخليجيين إزاء ما تقوم به إيران من أساليب واختراقات والتي قد تجرها إلى خيارات مؤلمة بدليل وجود هذه الخلايا التي هي تأكيد لفلسفة سياستها الخارجية وهي بالطبع تتضمن رسائل سياسية لدول الخليج منها أنها تقول لا تفتحوا أجواءكم في حال الضربة العسكرية علينا، ولا تدعموا حصار المجتمع الدولي بسبب برنامجها النووي، رغم أن موقف الخليجيين في هذه المسألة معروف ومعلن. لكن دعونا نبدأ من خلفية هذا الصراع لاسيما وقد سئلت عن هذه الذهنية التوسعية لدى قادة إيران ومن أين تستمد جذورها وعما اذا كانت في الفكر الشيعي وأدبياته؟ الحقيقة أن المفهوم التوسعي قديم حديث في العقلية الايرانية الفارسية. ولعل الصراع ما بين الدولة العثمانية، والدولة الصفوية والذي استمر عقودا من الزمن شهدت العراق أبرز أحداثه قد مثل ذلك شرخاً وتصدعاً في نسيج المجتمعات الإسلامية لاسيما وان طموحات الدولة الصفوية في السيطرة والهيمنة كانت سببا في إثارة الخلاف العقائدي بين المسلمين. ولذلك عندما وظفت الصفوية المفهوم العقدي لمصالح وأجندة سياسية، عندها بدأ تداخل السياسي بالديني.. ولعل المواقف آنذاك والصراعات ما بين الصفويين والعثمانيين، وقد شهدت ذروتها مدينة البصرة آنذاك، خلقت ساحة من الريبة والشكوك ما بين الطرفين تعمقت عبر قرون طويلة وإن خفت حيناً وظهرت حيناً آخر إلا أن ضفتيْ الخليج الان تكادان تعكسان بجلاء القصة المتراكمة عبر التاريخ إزاء الصراع السني- الشيعي، وقد تمثل ذلك في نظرية (أم القرى) الإيرانية التي تقول بخلع هذا اللقب من مكةالمكرمة وتحويله إلى (قم) الإيرانية ما دفع احدهم ليسألني عما اذا كان هناك شيء واقعي يجرى العمل له؟ قلت له: بأن الامر يتجاوز ذلك بكثير فالمسألة لا تتعلق بخلع ألقاب بقدر ما أنها تهدف الى محاولة محو الدور السعودي من الخارطة، وسحب الريادة الاسلامية من السعودية بالمفهوم الشامل. السعودية كانت ولا زالت تمثل لإيران هاجسا سياسيا وعقائديا، وتقف حاجزا منيعا امام تحقيق طموحاتها وتوسيع نفوذها، ولذلك هو امر مزعج لها فما لبثت أن لجأت إلى مختلف السبل من أجل تضييق الخناق عليها، وقد صرفت المليارات من اجل ذلك مدركة بأن مخططها التوسعي لن يتحقق له النجاح طالما أن السعودية تقوم بدورها المعتدل والمتوازن ونفوذها المؤثر في المنطقة والعالم، وبالتالي لم تجد أمامها سوى محاولة استغلال شعارات حقوق الانسان، وتوظيفها لأجندتها واللعب على الوتر الطائفي فضلا عن سعيها إلى محاولة انتزاع صفة المرجعية الدينية والسياسية للشيعة العرب في المنطقة. غير أن أحدهم تساءل عن شبكة التجسس التي أطاحت بها السعودية أخيرا، وما رشح عن علاقتها بإيران وإن كنت اتوقع ان تتبعها إستراتيجية سعودية معينة للتعامل مع إيران؟ أجيب بأنني ومن باب الموضوعية ارى ان الرد السعودي في قضية التجسس الاخيرة كان لافتا. لغته كانت حازمة وصريحة ومباشرة، فلم يتلبس بالغطاء الدبلوماسي، بل نزع للواقعية السياسية وتسمية الأشياء بأسمائها، وذلك باتهام سعوديين بالتجسس ، فالظرف والمعطيات والحدث تتطلب بالتأكيد توضيحا وردا بذاك المستوى من الأسلوب والصرامة والجدية. ولذلك فالسعودية من جانبها لم تقم بأساليب تجسسية مشابهة رغم امكانية قيامها بذلك استنادا لقدرتها المادية واللوجستية، كونها تؤمن في مبدأ عدم التدخل في شؤون الغير، غير أنها في الوقت ذاته تستهجن إمعان طهران واستماتتها في طرق أية وسيلة من شأنها ازعاج السعودية او زعزعة امنها او محاولة هز جبهتها الداخلية، بدليل ان سياسة طهران عادة ما تصب الزيت على النار فلا تخدم استقرار المنطقة بدليل تصريحاتها الاستفزازية وتدخلاتها المكشوفة وتجنيدها للعملاء. ورغم ان الدبلوماسية السعودية تسعى دائما إلى الحوار وإدارة ازمة الاختلاف بانفتاح، وهي التي مدت يدها لإيران مرات عديدة، ناهيك عن مناداتها بالمعالجة السلمية لبرنامج طهران النووي. لكن هذا لا يعني ان تستسلم السعودية وقد تتخذ قرارات وأساليب جديدة للرد كما ذكر وزير الخارجية السعودي. إن محاولة اختراق المجتمع السعودي كما لاحظنا في الخلية التجسسية يهدف بشكل أساسي الى تقويض النفوذ السعودي في المنطقة ومحاولة إضعافه وإشغال السعودية في الداخل لكي يفسح المجال لإيران بأن تتحرك بانسيابية لكسب ساحات نفوذ أخرى تضمن لها المساومة والمقايضة في مفاوضاتها مع الغرب. ونستكمل السلسلة الاسبوع القادم ومحور جديد.