هناك حاجة لإعادة النقاش حول الجدل القديم عن الطبع والصنعة، وهما مصطلحان برزا في نقد الشعر العربي القديم، وهما يُميّزان بين شعراء الطبع الذين يكتبون على سجيّتهم وبين شعراء الصنعة الذي يُنقّحون ويُعيدون الكتابة حتى تظهر القصيدة. وكلا النوعين من الشعراء لا يعدم الموهبة ولكن الفرق يكمن في الطريقة التي يسلكها كل واحد في التعبير. يفرّق الفيلسوف «بوفون» بين نمطين من البراعة عند البشر كما يظهر في السلوك اللغوي لديهم. وتفريقه هذا يفيدنا في إعطاء تصور عن هذين النمطين من الشخصيات. فعنده أنّ الموهبة قد تكون في الكلمات، وقد تكون في الأفكار والواقع أن هذين المصطلحين يحيلان إلى منهجين فكريين يتبعهما الناس في حياتهم بشكل عام، فهناك من يكون فطرياً يغلب عليه الارتجال في تفكيره وفي تصرفاته وفي قراراته ويضجر من التدقيق والتمحيص والدراسة ويجد فيها مضيعة للوقت والجهد؛ ويقابله الشخص الذي لا يقتنع بأيّ شيء ما لم يتوصّل إلى نتائج تكون خاضعة إلى دراسة عميقة وتمحيص ومراجعة، ومن خلال هذا المنهج يسير في عمله وفي سلوكه وفي قراراته. ويجد النوع الذي يعتمد على الطبع أنه يستمدّ رؤيته للعالم استناداً الى موهبته وحدسه الفطري؛ فكثيراً ما يعتمد على ما يجده من إيحاءات نفسية تجعله يتخذ قراراً معيناً؛ فعلى سبيل المثال، قد يرتاح لشخص معين لأسباب نفسية معينة، وبناء على هذا الارتياح النفسي يُعطيه الثقة وما يتبع الثقة من تعاملات. أمّا لو لم يرتح للشخص فإنه يجد أنّ هناك مانعاً قوياً –لا يعرفه- يقف دون التعامل مع هذا الشخص، ولن تعوزه التبريرات التي يجد أنّها مقنعة لأيّ تصرف يقوم به. وإذا صحّ أن الحدس في بعض الحالات يقود صاحبه إلى الوصول إلى نتائج واقعية تتطابق مع ما كان متوقعاً، فإن أصحاب الطبع يعدّون هذا دليلاً على صحّة منهجهم، فكثيراً ما يتردد على ألسنتهم عبارات مثل: «قلبي قال لي كذا»، أو «أنا كنت حاسّ كذا»، أو «ما ارتحت لهذا الشخص أبداً»، أو «قلبي انفتح له من أول نظرة».. إلخ من العبارات العاطفية التي تُعزز أفكار أصحابها بأنهم يسيرون وفق إرادة خفيّة تقودهم إلى تصرفات صحيحة بناء على ما تُخبرهم به موهبتهم في الحدس. ويتمسك أصحاب هذا النمط من الشخصيات بالقدرات الخارقة الخفيّة التي يملكها بعض البشر، فتجدهم يُعلون من قيمة شخص أو يُقللون منها بناء على ما يُظهره أمامهم من براعة لفظية أو جسدية أو بهلوانية. وفي الوقت نفسه، يؤمنون أكثر من غيرهم بالمؤامرات والدسائس الخفية ويتوقعون أن هناك أكثر من عالم يعيشون فيه؛ فهناك العالم الظاهر الذي تراه الحواس ويدركون فيه تصرفات البشر من حولهم كما هي، وهناك عالم آخر ليس ظاهراً للعيان ولكن الحدس يدركه ويكشفه لهم فيرون فيه تصرفات البشر بطريقة مختلفة من خلال تفسيراتهم لها. ويعتقد هذا النمط بأن هناك ميزات خاصة - تكاد تكون سريّة - للأماكن والأزمنة والأشياء والأشخاص؛ فقد يجد أحدهم أنّ استخدامه لقلم معين أو لأي أداة أخرى سوف يجلب له الحظ السعيد، أو أنّ بقاءه في غرفة معينة في المنزل يعني حلا لمشكلة عصيبة، أو أنّ اختيار وقت محدّد يعني شيئاً نفسياً؛ وكذلك ارتباطه مع الأشخاص فقد يكون له أثر إيجابي يتفاءل به وقد يكون له أثر سلبي يتشاءم منه. ويغلب على هؤلاء التعامل مع الأمور كلها بعاطفة ويمكن أن يكون العقل مجرد مرشد يدعم صحّة ما تُوحي به العاطفة؛ فقرار الزواج مثلا، وهو من القرارات المصيرية في حياة المرء، يمكن أن يكون عاطفياً مبنياً على أحداث أو متغيرات لا علاقة لها بالشخص؛ فلو افترضنا أن اليوم الذي تقدّم فيه الزوج لخطبة الزوجة كان يوماً مغبراً فإنّ القرار العاطفي هو التشاؤم من هذا الزواج، وعكسه لو كان اليوم ممطراً أو صحواً. ويمرّ أصحاب هذا النمط من الشخصيات بحالات مزاجية متغيرة، فلو كان أحد هؤلاء مسؤولا يملك قرارات مهمة، فقد يوافق على طلب الشخص حينما يكون مزاجه رائقاً في الصباح، ويرفض الطلب نفسه لو كان مزاجه معكراً بعد الظهر؛ وليس للموافقة أو الرفض علاقة بصحة الطلب أو عدم صحته. ويتسم هذا النمط من الشخصيات بالمغامرة التي لا تُعرف نتائجها، ولكن الشخص يقدم على تلك المغامرة في الزواج أو العمل أو الدراسة أو اتخاذ قرار معين اعتماداً على الحدس بأنّ هناك أمورا خفية سوف تحدث وتكون لصالح هذه المغامرة في النهاية. وعكس هذه الشخصية نمط الشخصيات العلمية التي تعتمد على المنطق في مجمل تصرفاتها وقراراتها؛ فكل المعلومات والمؤشرات والدلائل لا بد من إخضاعها للنقاش والتمحيص حتى تثبت أو لا تثبت. وفي الكتابة أو في الكلام، نجد هذا النمط من الشخصيات أكثر توازناً وأقل عنفواناً، وقد يكون أبطأ في اتخاذ القرار ولكنه يحرص أن يكون قراره أقرب إلى الصحّة. لا يمكن التأثير على هذا النمط من الشخصيات بتخمينات الحدس أو الظنون، وإذا قبلها فإنه يتخذ منها مجرد مؤشر لا قيمة له إلا بما تثبته التجربة. يفرّق الفيلسوف "بوفون" بين نمطين من البراعة عند البشر كما يظهر في السلوك اللغوي لديهم. وتفريقه هذا يفيدنا في إعطاء تصور عن هذين النمطين من الشخصيات. فعنده أنّ الموهبة قد تكون في الكلمات، وقد تكون في الأفكار؛ ويرى أن الأسلوب ينشأ من الترتيب المناسب لأفكار المرء، أما انتقاء الألفاظ لذاتها وتوكيد الزينة وأدوات الأسلوب فيكشف عن ضعف أفكار المؤلف وعدم ترتيبها الجيد، لأن الأسلوب على علاقة بالفكر. ويؤكد أن المؤلفين الذين يعتنون بالكلمات ليس لديهم أسلوب، بل هو مجرد طيفِ أسلوب. ولأن الكتابة تكشف عن الفكر، فيرى أنّ الكتابة بصورة جيّدة يعني أن تفكر وتشعر وتُعبر بصورة حسنة. ويرى أنّ التناغم هو مجرد توافق الأسلوب مع الموضوع لا يمكن فرضُه، بل هو ينشأ من طبيعة الموضوع، لذا ستصل فقط الأعمال المكتوبة بصورة متقنة إلى الأجيال اللاحقة، لأنه يمكن فصل الحقائق عن اكتشاف الخصائص الأسلوبية، ويمكن نقل الحقائق من جيل إلى آخر باعتبارها أموراً ليست من عمل الإنسان، أما الأسلوب فهو من عمل الإنسان الخاص، ولا يمكن نزعه من العمل، ولكن الأسلوب يكون جيدًا فقط من خلال الحقائق التي يقدمها. وتوضيح "بوفون" يركز على نمط شخصيات الطبع من الناحية اللغوية. وإذا علمنا أن هذا النمط يميل إلى الكسل والخمول، وأي نشاط يقوم به يكون مفاجئاً وغير مخطط له فمن المتوقع أن تنجذب هذه الشخصيات إلى الأعمال المؤقتة بفعالية عالية، ولكنهم غير قادرين على الاستمرار في عمل معين بوتيرة ثابتة. ولهذا، فإنّ الإنتاج أو التميّز الذي يُنسب إلى هذا النمط من الشخصيات إنما يحصل بشكل مفاجىء قد لا يتكرر لأنه عمل ارتجالي لا يخضع لرؤية عقلية تعتمد على منهجية في التفكير والتصورات.