لولا ان الكاتب الفرنسي أونوريه دي بلزاك كان يحب ان يضع التحليل السيكولوجي الاجتماعي لشخصيات أعماله الأدبية في المقام الأول من اهتماماته خلال رسمه تلك الشخصيات، لكان في الإمكان اعتباره واحداً من الرواد الكبار في مجال كتابة الأدب البوليسي، او على الأقل كتابة ادب التحقيق القضائيّ المعمّق، الذي هو عماد النوع الأرقى من الكتابة البوليسية. بيد ان بلزاك كان يرى دائماً أن البُعد الاجتماعي يجب ان تكون له المكانة الأولى في كلّ ما يَكتب، وأن تحليله الشخصيات يجب ان يفضي اولاً وأخيراً الى دراسة تصرفات تلك الشخصيات وسلوكها، كي يضع قارئه في صلب القضية الاجتماعية، وذلك بصرف النظر عما اذا كانت الاستنتاجات التي سيطلع بها ذلك القارئ «تقدمية» أو «رجعية»... فهذا التقسيم الثنائي المعتمد على لعبة «الأسود والأبيض» لم يكن همّاً من هموم صاحب «الكوميديا الإنسانية»، كان ما يهمّه الرسم العميق لصورة الإنسان في حالاته كافة. ونعرف طبعاً انه نجح في معظم انتاجه الأدبي في تحقيق ادب كبير كان هو شعاره الدائم. * وإذا كان في وسعنا ان نجد عشرات الأمثلة في ادب بلزاك على ما نذهب اليه، فإن في إمكاننا –وتبعاً لقاعدة أن الأعمال الصغيرة للمبدعين تكون عادة أكثر قدرة على «كشف» أسرار أدبهم من اعمالهم الكبيرة- أن نتوقف عند عمل صغير لهذا الكاتب، متطلّعين فيه الى تحرّي المزج لديه بين التحقيق «البوليسي» –أو بالأحرى القضائي هنا– وبين التعمّق السيكولوجي في دراسة الشخصيات، والمتعة الأدبية الخالصة. العمل الذي نعنيه هنا هو النص القصصي، القصير نسبياً «الحظر»، الذي نشره بلزاك للمرة الأولى في العام 1836، علما بأنه كان كتبه قبل ذلك بزمن. ومن المرجّح، وفق كاتبَيْ سيرة بلزاك، أنه كتبه انطلاقاً من أحداث حقيقية عايشها لدى رهط من معارفه، ثم غيّر بعض الأسماء حين كتب النصّ. بالنسبة الى أحداث هذه القصة، من الواضح انها ليست في حدّ ذاتها أحداثاً ذات اهمية كبيرة، بل هي على الأرجح من نوع تلك الأحداث التي تحصل في كل مكان وزمان، منطلقة من وقائع عائلية محدّدة لتصب في نهاية المطاف في قناة الواقع الاجتماعي والسلوك البشري. والحكاية هنا هي حكاية سيدة المجتمع التي تقدّم الينا باسم المركيزة ديسبار، سيدة حسناء تعيش حياة مرفهة بفضل ثروة زوجها المركيز.. غير ان الذي يحدث ذات يوم هو ان المركيز يقررالتخلي عن جزء كبير من ثروته لمن بات يعتبرهم من اصحاب الحقوق في تلك الثروة، أي بالتحديد لأشخاص دلته بحوثه العميقة والنزيهة في التاريخ الراهن لعائلته، أن جدوداً له قد انتزعوا منهم ثرواتهم على غير وجه حق، وأن الأوان قد حان كي يعود الحق الى اصحابه. وهذا الخبر ما إن يصل الى مسامع المركيزة حتى يجنّ جنونها، إذ تدرك ان ما يفعله زوجها سوف يكون من شأنه ان يقلص الثروة العائلية الى حد يمنعها من ان تواصل عيش الحياة الرغدة التي تعيش، فلا يكون منها هنا الا ان تبتعد عن زوجها لتبدأ سلسلة من الإجراءات والدسائس التي تهدف من خلالها الى منعه من التصرّف بالثروة، عبر فرض نوع من الحظر القضائيّ عليه، تحت زعم أنه بات فاقداً لقواه العقلية ومداركه، بحيث لم يعد من الجائز له ان يتصرف بالثروة. وهنا، إذ تلاقي المركيزة ديسبار صعوبات غير متوقعة تحول بينها وبين تنفيذ ما تخطّط له بطريقة قانونية طبيعية، يدخل على خطّ الأحداث نصّاب داهية كان معروفاً بمغامراته ودسائسه في ذلك الحين، هو المدعوّ راستانياك. وهذا الشخص ما إن يسمع بالقضية وحتى من دون ان يطّلع على التفاصيل، يعمد على الفور الى التخلّص من عشيقته القديمة مدام دي نوسيجن، ليتقرب من المركيزة ديسبار وكلّه تطلُّعٌ الى الارتباط بها، مساعداً إياها على حلّ القضية القضائية التي تخوضها ضد زوجها... فهو يأمل أنه إن ساعد المركيزة على جعل القضاء يفرض الحظر على زوجها، سيكون من شأنه ان يحصل هو على الثروة. وهكذا يبدأ راستانياك مساعيه ومؤامراته حتى يتمكن من اقناع صديق مقرّب منه هو الدكتور بيانشون، بأن يتصل بعمّ هذا الأخير القاضي جان جول بوبينو، علّه يتسلم القضية ويحكم في النهاية لصالح الزوجة، مثبتاً «جنون» المركيز ديسبار، وبالتالي عدم قدرة هذا الأخير على التصرّف بأمواله. هنا رتّب راستانياك، بالتواطؤ مع المركيزة ديسبار، كلَّ شيء، ورسم خطّته بإحكام، حاسباً حساب كلّ شيء... غير أنه كان واهماً في ذلك... أو على الأقلّ واهماً بالنسبة الى نقطة واحدة على الأقلّ، فهو لم يحسب حساب ان يكون القاضي بوبينو رجلاً نزيهاً. هذا القاضي كان نزيهاً بالفعل، لكنه كان الى هذا أيضاً خبيراً في طبائع البشر وسلوكياتهم، ومن هواياته دراسة هذه السلوكيات وتلك الطبائع. ومن هنا، ما إن تسلّم القضية حتى انكبّ عليها، من ناحية كي يحلها لصالح اتخاذ القرار بأن الزوج سليم العقل ويمكنه بالتالي التصرف بأمواله كما يحلو له، واصلاً الى حدّ الثناء على فكرته العادلة بإعادة الأجزاء المسلوبة من الثروة القديمة الى أصحابها... ومن ناحية أخرى مشتغلاً على دراسة شخصيات القضية وأخلاقهم. والحال ان هذا يبدو لنا في نهاية الأمر، الجانبَ الذي كان يثير اهتمام بلزاك اكثر من اي جانب آخر، فالقضية -كما قلنا- لم تكن في حدّ ذاتها مثيرة او قادرة على ان تشكّل خلفية لحبكة أدبية حقيقية... وعلى هذا النحو جعل بلزاك القاضي بوبينو شخصاً غير قادر على السكوت عن نصب وافتراء يجريان امام عينيه. ومن هنا، في القسم الأخير من النصّ، يصبح بوبينو هو المحور الذي تدور «الأحداث» من حوله، فهو بعدما لاح لنا أول الأمر أنه سوف يساير قريبه ليقف مناصراً صديق هذا القريب، يقدَّم لنا بِسِماته الحقيقية، فإذا بنا نجده شخصاً شكاكاً، ما إن يجد نفسه امام المسألة برمّتها حتى يدرك حقائقها. اما نحن، معشرَ القراء، فإننا من خلاله ومن خلال تأملاته التي يتبناها الكاتب، سنجدنا تباعاً امام تحليلات سيكولوجية واجتماعية تضعنا على الفور امام شغف بلزاك نفسه بالمسائل القضائية... فإذا بالقاضي يحلل بينه وبين نفسه كلّ شخصية من شخصيات القضية على ضوء مواقفها واشتغالها لمصالحها ولو على حساب العدل والحقيقة –بل بالأحرى على الضدّ من مسألة العدل والحقيقة-، وبالطبع سيكون في امكاننا ان نقول هنا ان الكاتب، ومن خلال استعراضه افكار القاضي وتحليلاته، سيمارس هوايته الأدبية التحليلية التي تقوم على سبر أغوار النفس البشرية في شتى أحوالها، وهي الهواية التي نعرف أنها طويلاً ما أملت على صاحب «الأب غوريو» و «اوجيني غرانديه» وغيرها من شوامخ الأدب الاجتماعي والسيكولوجي الفرنسي في القرن التاسع عشر، طبيعتها المستجدة، ما جعل من بلزاك واحداً من أكبر رواد الأدب السيكولوجي في بداياته. والحال ان بلزاك، في هذا السياق تحديداً، جعل من أدبه ميداناً خصباً لدراسة الأعماق البشرية، لكننا بينما نجده يضمّن ذلك التحليل تضميناً خفياً في أعماله الكبرى، نجد بالتالي أنه لم يتردد هنا في هذا النص القصير، الذي جعله -من الناحية الأسلوبية وفي نهاية الأمر- أشبهَ بتقرير قضائي يضعه القاضي بوبينو، لم يتردد في كشف أسلوبه وغايته، وكأنه يمهد لاستخدام الاستنتاجات التي يتوصل اليها في ارتباطها بإدراك القراء لها وتفاعلهم الإيجابيّ معها، كمدخل لمراحل مقبلة من مسيرته الكتابية تسمح بالمزيد من التحليل، إنما -من جديد- مضمَّناً في سياق الأسلوب لا مضافاً اليه من خارجه، وهو ما تحقق بالفعل في الأعمال الكبيرة التي كتبها بلزاك خلال الحقب التالية من حياته التي تلت كتابته «الحظر». ولا شك في أن اونوريه دي بلزاك (1799-1850) فعل صنيع كبار الأدباء في العالم من الذين يعرفون كيف يكتبون بين الحين والآخر نصوصاً قد تكون ثانوية الأهمية لكنها تفصح عن أسرار أساليبهم وخفايا كتاباتهم. [email protected]