تتجافى جنوب الكارهين عن المضاجع، يصلون ليلهم بنهارهم شاحذين هممهم، بحثاً عن ضحية يرمونها على مذبح الكراهية، وبكل التهم والحقد والضغينة والبغضاء ينهشون عرضها وإيمانها وعقلها وإنسانيتها، ثم يحشدون جنودهم -المؤدلجين لخدمة مصالحهم- ليتنادوا مبشرين بشطب الضحية ونفيها ومحوها، وما أن ينتهوا من ضحية- سواء أفلحوا في نصب شراكهم ضدها أو أخفقوا- حتى يشرعوا رحلة التفتيش عن ضحية أخرى، هدف واحد تحمله على أكف الكراهية عقولهم وأفئدتهم التي فرغت إلا من تدنيس تربة الخير والحق والعدل. إننا مخدوعون بأحكام الرجال عندما نستخدم أقوالهم قبل وضعها في ميزان الشك والنقد، فتكتسب قداسة شمولية، كمقولة النووي والذهبي وغيرهما بأن «كتاب البخاري أصح كتاب بعد القرآن»، لتتحول القداسة من التمحور حول الرجال كمعصومين، إلى شمول الأقوال كمقدس، وكأن الله أنزل كتابين على المسلمين؟! هذا باختصار ما يلتظي في ساحة تويتر، ومَن حَرُمَ حرية التفكير في العلم والمعرفة لا يستغرب أن يصبح مهتاجاً لمجرد إنسان فكّر وتساءل واستفسر، فالشك خطرات خاصة تتمظهر حيناً بعد حين لعقول المتأملين.. وهمٌ ملحٌّ لا ينقطع ولا ينتهي لنشدان اليقين في رحلة الوجود والإيمان. وبمتابعتي للهجمة الشرسة على الزميل محمد آل الشيخ الكاتب في جريدة الجزيرة عندما التمس بقاعدة واضحة لنقد المتن تساؤلاً فطرياً مشروعاً حول بعض الأحاديث، كحديث شرب أبوال الإبل، وحديث السمع والطاعة للأمير، وإن جلد ظهرك وسرق مالك، تمنيت لو جاء رد أحد "المتدينين" - مع التحفظ على المصطلح - على الكاتب رداً علمياً أميناً، لكن للأسف وكالعادة جاءت غالبية الردود؛ ردود تصفيةٍ؛ حزبية الأصل والمنشأ، ففضلت المشاركة إيماناً بأن الله سبحانه يُظهر حكمته لمن تقوده رغبة الحق أولاً، وتهفو أمانته للبحث الغاض عن الانتماءات العنصرية، إلى حيث رحابة العدالة وجدية الرؤية المبرهنة، بما توفره جاهزية المؤمن الصادق لقبول الحق باستشعار فؤاده أولاً، مصداقاً للحديث المرفوع للرسول صلى الله عليه وسلم "إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين له أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه بعيد منكم فأنا أبعدكم منه" فمؤمن يؤمن بقيمة قلبه وشعوره وبشريته وفطرته وصفاء سريرته حقيق عليه تقبل وتطبيق هذا المعيار، إلا أن للحزبيين ومصالحهم قولاً آخر، يردون كل حديث له مع الإنسانية التقاء طريق، في تهافتهم المحموم بعقيدتهم الكارهة المنطلقة في عبثيتها إلى دروب الغي والضلال والتعدي الصريح على الإنسان فيسوقونه لمهاترات لاينتهي سوقها؛ فبائع منها ومشترٍ..ألا كسدت تجارة المبطلين! ولئن كان استشعار صحيح الرواية من سقيمها واضحاً لأهل النفوس؛ دقيقة الحس والتصور والفهم، فيردفها قواعد تعينها على التمييز، فالفقهاء خاصة بعد مقتل عثمان بن عفان والحسين بن علي رضي الله عنهما وضعوا قواعد لنقد المتون لمواجهة حركة وضّاعي الحديث الذين كثروا مع طلائع الحكم الملكي في عصر بني أمية، وحركة الوضاعين هدفها الدس والكذب على الرسول الكريم لتشويه الشرع وطمس حقائق القرآن، ومقاصد الشرع، وبمنهجية صارمة كان الفقهاء لا يقبلون أي متن لأي حديث مهما بلغت صحة سنده إلا بما وافق شروط التصحيح، فشروط المتن تقي من أي أخطاء في النقل يقع من صحابي أو غيره، ومع هذه الشروط لايعني عدم احتمال وقوع الغلط منهم، فقد خطّأ الصحابة بعضهم بعضاً كما في استدراكات عائشة على الصحابة، لذا كانت قواعد نقد المتن وسيلة علمية للتدقيق في صحة الحديث، فالقواعد المنهجية في قبول متن الحديث تشمل 15 قاعدة لا يُقبل الحديث متناً إذا صادم واحدة منها، من هذه القواعد: * ألا يخالف بدهيات العقول. * ألا يخالف القواعد العامة في الحكمة - الطب - والأخلاق. * ألا يشتمل على سخافات يصان عنها العقلاء. والطب والحكمة والعقل ترد متن رواية شرب أبوال الإبل بحسب المنهجية التي اعتمدها الفقهاء في الشرطين السابقين، فإذا أضيف لهما معيار الحس والذوق السليم الذي حواه الحديث الأول فإن تصور شرب بول الإبل تنفر منه المهج السليمة، وتنكره قلوب وأشعار وأبشار المؤمنين، أما إن أبى من أبى فليشرب أبوال الإبل، ولن يمنعه منكر مستهجن بقلبه وحسه وشعوره، وليضرب بشروط الفقهاء عرض الجدار وطوله. أما حديث السمع والطاعة للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع" فالقواعد التالية تحكم فيه: * ألا يخالف سنن الله في الكون والإنسان. * ألا يدعو للرذيلة - الانحطاط بإنسانية الإنسان، فالمساس بإنسانية الإنسان حاربته جميع الشرائع. *ألا يخالف القرآن، ولا يصادم مقصداً من مقاصد الشريعة. ومخالفته القرآن جلية في صيانة التعدي والظلم والبغي، بقبول رذيلة الانحطاط بإنسانية الإنسان وكرامته، ومصادمة صريحة لأبرز مقاصد الشرع القرآنية؛ قيمة العدل والقسط وهي أم مقاصد وغايات الوجود البشري أجمعه. يرى الإمام مالك: أن القرآن مقدم على الرواية من ستة أوجه: يقبل متن الحديث ما لم يخالف قطعي القرآن، وظاهر القرآن، وعبارة القرآن وإشارة القرآن، ودلالة القرآن، ومفهوم القرآن، فأين هذا كله من التطبيق على حديث طاعة الأمير الجلاد؟!! إن ألزم أوجه نقد الروايات: عرضها على النصوص والقواعد الشرعية، فإن خالف شيئاً منها ترك العمل به، وقد عملت بذلك عائشة رضي الله عنها، فلما سمعت رواية عمر وابنه عبدالله (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه) - الرواية في البخاري ومسلم - قالت: رحم الله عمر، والله ما حدث رسول الله أن الله يعذب المؤمنين ببكاء أحد، حسبكم قوله تعالى "ولا تزر وازرة وزر أخرى". ولقد ردت عائشة رضي الله عنها أحاديث أخرى في الصحيحين كحديث الشؤم في المرأة، وقطع المرأة للصلاة، للنكارة والشذوذ، كما رد غيرها روايات أخرى كالألباني وغيره، لكن يبدو أن ما يسبب الجهالة ويورث الحمق هو ما يخشى فراقه اليوم، فيقبض على الحقد والكره بنواجذ أهلها المسمومة بمصالح حزبية تسلطية. إننا مخدوعون بأحكام الرجال عندما نستخدم أقوالهم قبل وضعها في ميزان الشك والنقد، فتكتسب قداسة شمولية، كمقولة النووي والذهبي وغيرهما بأن "كتاب البخاري أصح كتاب بعد القرآن"، لتتحول القداسة من التمحور حول الرجال كمعصومين، إلى شمول الأقوال كمقدس، وكأن الله أنزل كتابين على المسلمين؟! يحذر الأستاذ والباحث الشرعي عبدالله العلويط من اتخاذ الدين والعلم مطية، ويرى أن التشنيع على الكاتب والمطالبة بمحاكمته دليل على الحزبية، فبعضهم قد يوافق على رد الرواية ولكن حينما علم أن محمد آل الشيخ هو من فعلها تظاهر بأنه لا يرى ذلك، وانتصر لسنة رسول الله كما يقول، وهو توظيف وغلو للروايات، فالرواية وإن كانت في البخاري يجوز للفرد ردها بعقله حتى لو لم يكن متخصصاً. غاية البؤس أن تحمل الكراهية دافعاً تعبدياً يدافع عن الله ورسوله، فيشرعن بغلوائها الماحقة حالات النبذ والطرد والإقصاء، يلهب موقدو التوحش على إثره بما يعتمل في نفوسهم من ضغينة وبغضاء بجعله إرثاً عاماً يقول للمختلف آن لنا أن نلغيك، أن نشطبك، أن نزيلك عن وجه الأرض لممارستك خطيئة التفكير، ولا يزال الموتورون بدافعية عقيدة الكراهية يؤلبون ويشحنون، ديدنهم البحث ثم البحث للفوز بصيد ثمين، وكلما نصبوا شباكهم الحقيرة، تاقت نفوسهم المبغضة بانتظار ما يليه، فهم في مرجل الكره يصطلون، يمارسون استيلاداً متوالياً لعقيدتهم الشنعاء جيلاً إثر جيل، يزندقون - بسلطتها - ويبدّعون ويكفّرون.. في معبد الكراهية يستمر نصب محاكم التفتيش، وما دام المشنوق استباح حرمة التفكير واستساغ رحلة السؤال الحر المناهض لعقيدة التأثيم، المتطهر بروح الرغبة الجامحة لومضة من نور الحق المبين، فقد أعلن على نفسه لعنة المجانين. بهيمنة التيار المنغلق أُغلقت أبواب العقل، وصودر حق التفكير الفرداني الحر، فاضمحل التفكير بعمومه إلى أن تلاشى التوظيف العقلاني للنص في عصر الانحطاط أثناء حكم المتوكل، وهيمن على الوعي الإسلامي فيه فضل النقل على العقل، فتوقفت لغة البحث الحي الجاد، ويكفي كاستدلال نقلي صرف ترسيخ قيمة السند وإهمال المتن بالرغم من أن السند وسيلة والمتن غاية، وليس ذلك بمستغرب، فمواضع الاستدلال شأن عقلي يفعّل القواعد، ولا يكتفي بتسجيلها للفرجة، ونحن اليوم أمام أشد لحظات الاستحقاق التنويري الديني الفلسفي لإنقاذ العقل من نومة غفلته السادرة منذ قرون. ختاماً: في المقابل؛ باختبار الموازنات تقاس الرغبة في الحق من الشهوة للباطل، وذلك بالنظر لردة الفعل تجاه واعظ ملاييني لم يكتفِ باتقاد جمرة الكراهية والبغضاء كانفعالٍ خاص به، بل وظّف هيجانه العصابي المارد مع سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام، ساحباً هيبة العهد والميثاق الذي يأمن به المعاهدون استجابة لنار الانتقام والكره، فهل يليق بخزان الكره الهائل أن يتجاوز بادعائه لدرجة البغي؟ وعلى من؟! على الرسول صلى الله عليه وسلم؟! مقالي القادم سيتناول ما قاله واعظ عقيدة الكراهية، ولم يستنكره واحد ممن غلت وأرجفت أراجيف باطلهم، علهم يعترفون بأن الحق يقاس-عندهم- بالرجال، لا العكس، كما يدعون؟!