نأت المملكة بنفسها عن الاحداث الداخلية في محيطها الإقليمي والدولي فاكتسبت بذلك صفة الطرف المحايد. ففي الوقت الذي تنشط دول سخرت إمكانياتها للتدخل في شؤون الدول الأخرى بما يسهم في ضعضعة ينفذ من خلالها العدو. سخرت المملكة امكانيتها في مساندة الدول للتغلب على ظروف لحقت بها بدءاً من حوادث الطبيعة وصولاً إلى الخلافات السياسية. واتخذت المملكة مبدءاً في سياستها الخارجية في علاقاتها مع الدول، وهو أن ما يحدث داخل هذه الدولة أو تلك لا يقع في إطار شأنها واختصاصها، لذا كان رئيس الدبلوماسية السعودية الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية دائماً ما يتجنب الإجابة على أسئلة يتطلب جوابها تدخلاً في شؤون هذه الدولة أو تلك، فتجده يرفض التعليق مبرراً بأن بلاده لا تتدخل في شؤون الدول الأخرى. ومع ذلك لم تألُ المملكة جهداً من لعب دور الوسيط المصلح إدراكاً منها بالمسؤولية الملقاة على عاتقها كقوة إقليمية في المنطقة ترى أن مسعى حل المشاكل يقع في بعض الأحيان في محيط مسؤوليتها الإقليمية والدولية كدولة لها ثقلها في البعدين العربي والاسلامي. وكانت المملكة قد قامت بجهودها للتوسط كطرف حل توفيقي وتوافقي وبكل ما أوتيت من طاقة في قضايا عدة منذ فترة طويلة، ودائماً ما كانت الرياض تشترط موافقة أطراف النزاع على تدخلها لتؤكد عدم انحرافها ميلاً لتلك الجهة أو تلك. ولعل المراقبين والمؤرخين يتذكرون بشكل جلي قيام المملكة بجهدها الماراثوني في الحرب الأهلية اللبنانية التي دامت من 1975 – 1991 لتنتهي بالاتفاق التاريخي الذي أبرم في مدينة الطائف، ولم تكتف المملكة بهذا الجهد السياسي فشاركت في إطار اعمار لبنان بعد سنوات الحرب التي أتت على الأخضر واليابس. وقس على ذلك جهود القيادة السعودية الشخصية في حل خلافات على عدة مستويات وإن كان استمرارية وديمومة الاستقرار مسألة تقع على عاتق الفرقاء السياسيين، إلا ان المملكة كانت تحرص على الوصول بالمتخاصمين إلى بر الأمان فالخلافات الأفغانية والصومالية والفلسطينية والمواثيق التي أخذتها الأطراف السياسية على نفسها بضمان السلم والأمن ولم تصمد طويلاً آلت لهذه النتيجة لأن ذات الأطراف المتخاصمة نقضتها. ولم تكتف المملكة بذلك في إطارها كدولة ذات سيادة بل سعت لجعل جهود السلام ذات طبيعة مؤسسية فطرحت مبادرة السلام العربية في إطار الجامعة العربية وحظيت بإجماع عربي عز مثيله في وقت كان يرأس الحكومة الإسرائيلية المتطرف ارئيل شارون الذي رد على المبادرة باجتياح الضفة الغربية. ومع التغير التاريخي الذي تمر به المنطقة العربية، تداعت أحداث «الربيع العربي» تباعاً في عدد من الدول العربية، وكان لذلك الحدث تداعيات كان ولابد للمملكة أن تسهم ايجاباً بها، وتحديداً في اليمن التي قدمت دول الخليج مبادرة لها لنزع فتيل حرب أهلية كادت أن تحدث، واستمرت المملكة في دفع عملية الاستقرار في اليمن بتعزيز الاقتصاد اليمني وتنظيم حشد دولي من أجل تحقيق التنمية باعتبارها أساس استقرار البلدان. المصالحة التشادية السودانية التي تمت برعاية سعودية في الرياض وبالرغم أن مسلك المملكة في النأي بالنفس عن الشؤون الداخلية للدول هو مسلكها، إلا أنها أخذت على نفسها ألا تبقى صامتة على ظلم الظالمين أو أن تخذل المظلومين، فبعد أن أوغلت آلة القتل في سوريا، لم تستطع المملكة أن تقف موقف المتفرج وهي التي ينظر إليها باعتبارها ثقلاً دينياً وسياسياً وهي مسؤولية كبرى على عاتقها أمام العالم الإسلامي. فأطلقت دعوات من أجل إيقاف نزيف الدم ودعمت مبادرات لأجل ذلك، لكن لا مجيب، فالنظام السوري يبدو أنه ماض ٍ في مشروعه الدموي ولم يكتفِ بذلك بل يحاول تصدير أزمته إلى الدول المجاورة له. لذا وقفت المملكة موقفاً دولياً صلباً تجاه ممارسات النظام السوري الوحشية واعتبرت تسليح مناضلي الجيش الحر واجباً، وصعدت تجاه نظام الأسد في المحافل الدولية واستطاعت الحصول على إجماع دولي إذ صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة على مشروع القرار العربي الذي يدين استخدام الأسلحة الثقيلة وعجز مجلس الأمن في الأزمة السورية، بأغلبية 133 صوتا ومعارضة 13 صوتا فيما امتنعت 33 دولة عن التصويت. ولم تكتف المملكة بالجهود السياسية بل تزامن ذلك مع نشاط إنساني مكثف حيث سيرت قوافل اغاثية من الرياض إلى مخيمات اللاجئين في الأردن وكذلك في لبنان لرفع معاناة الجوع والمرض عن اللاجئين. استطاعت المملكة في الوقت الحرج أن تثبت قدرتها على لم شمل المسلمين وجمعهم تحت سقف واحد وتوجيه النداء لهم للاجتماع بمكةالمكرمة في شهر رمضان، إذ دعا خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز زعماء الامة الاسلامية للاجتماع في مكة العام الماضي وقدم خلالها مبادرة بإنشاء مركز للحوار بين المذاهب الإسلامية للوصول الى كلمة سواء ولم شمل الأمة الإسلامية. ودعت القمة التي عقدت في وقت تشتعل الحروب فيه باسم الدين الى محاربة الفتن بين المذاهب ومكافحة الارهاب والغلو. وقررت القمة تعليق عضوية سوريا في منظمة التعاون الإسلامي وجميع الأجهزة والمؤسسات المتخصصة التابعة لها، بسبب حملة القمع العنيفة التي يشنها نظام بشار الأسد ضد الشعب السوري الشقيق، مؤكدة على أهمية وضرورة الحفاظ على وحدة سورية ووحدة أراضيها. وأكد ميثاق مكة محورية القضية الفلسطينية كقضية للعرب والمسلمين الأولى وحمّل دولة الاحتلال الإسرائيلية مسؤولية تعثر جهود السلام. كل تلك الجهود هي استمرارية لتاريخ طويل نذرت فيه المملكة نفسها للأمتين العربية والإسلامية ولم تستغل ذلك في يوم لمصالح تحققها أو زعامة تطلبها، لكن إدراكاً منها بمبدأ الجسد الواحد.