من يستمع شخصياً إلى الروائي اللبناني الكبير أمين معلوف، أو يقرأ ما كُتب في السنوات الأخيرة، يجده في منطقة وسطى بين التشاؤم والتفاؤل، أي في «التشاؤل» على حد تعبير الروائي الفلسطيني الراحل أميل حبيبي. والغريب أن كلاً من الروائيين بدأ حياته مناضلاً يسارياً، أي متفائلاً، وانتهى متشائماً، ولكن عزّ عليه أن يرفع الراية البيضاء ويستسلم، فقال إنه ليس متشائماً كلياً، وإنما هو في منزلة بين المنزلتين، كما كان يقول القدماء، أي في «التشاؤل» الذي ينتظر صاحبه بصيصاً غير مُلتمس حالياً، ولكنه قابل للالتماس في يوم ما، وهذا هو حال «سعيد بن أبي النحس» في الأمس القريب، في رواية أميل حبيبي الشهيرة، وحال أمين معلوف في «الهويات القاتلة»، و«بدايات» وسواها من الأعمال التي طبقت شهرتها الآفاق، وفي مجمل نظرته إلى أحوال العالم العربي قبل كل شيء. لماذا هذه المنزلة بين المنزلتين عند الروائيين العربيين الكبيرين، وبخاصة عند أمين معلوف؟ لأسباب جوهرية منها أن ما توقعه أمين معلوف منذ فترة غير بعيدة منذ سقوط جدار برلين على وجه التقريب، لم يتحقق أبداً، بل تحقق عكسه. «كان ثمة أمل في تلك الفترة في أن يسير العالم نحو مدّ للديمقراطية والحرية، وحلّ للأزمات الدولية والاقليمية بشكل منصف وعادل، وأن يسير العالم نحو الحكمة والعقلانية». لكن ما حصل كان، بنظر أمين معلوف، مختلفاً تماماً. فالعالم سار نحو المزيد من الصراعات والمزيد من الحقد والعنف، والمستقبل، تأسيساً على ما هو مرئي الآن، ليس مشرقاً كما يتمنى كل الناس. في إحدى رواياته، كتب أمين معلوف على لسان أحد الشخصيات بأن الإنسان يجب أن يعتبر أن ثمة بصيص نور في آخر النفق قد يراه يوماً». وحتى لو كان هذا البصيص غير موجود حالياً، فعلينا أن نعتقد أنه موجود. يقول أمين معلوف عندما يُسأل من أحوال زماننا الراهن: «أنا اليوم أعيش في هذا الجو، انتظر رؤية بصيص الأمل»!. ما يقوله أمين معلوف يؤلف وجهة نظر جديدة بأن نُصغي إليها. فالروائي اللبناني الكبير المقيم في باريس منذ حوالي ثلاثين سنة، والحائز على جوائز أدبية غربية رفيعة، قادم من تجربة فكرية ونضالية غنية. ففي مرحلته اللبنانية عُرف بيساريته، وقد عمل في جريدة «النهار» وفي جرائد لبنانية أخرى، حيث توضحت «هويته» الفرنسية في عمل عدة صحف فرنسية، منها «الجون أفريك» التي عُرفت بسمعتها الوطنية والنضالية كمجلة أولت القارة الافريقية وبقية بلدان العالم الثالث عناية كبيرة، وقد ترأس أمين تحرير هذه المجلة لاحقاً، وقبل أن ينصرف إلى عمله الأبرز الذي اشتهر به، وهو تلك الروايات التاريخية أو شبه التاريخية التي عرّف بواسطتها الغرب على صفحات مشرقة من حضارة المشارقة، ومنها «ما ني أو حديقة النور»، و«سمرقند»، و«الحروب الصليبية كما رآها المسلمون»، و«ليون الافريقي»، وسواها، وآخرها «بدايات» التي تؤرخ لأحد أجداده المعالفة الذي هاجر إلى كوبا ومات فيها. وما يزيد في أهمية «رؤيا» أمين معلوف المتشائمة، أو المتشائلة، كونه منا نحن العرب ومن أحلامنا وطموحاتنا إلى غدٍ عربي أفضل. فهو سليل أسرة أدبية وثقافية أعطت اللغة العربية سبعين شاعراً بالتمام والكمال. ولو أن أمين لم يكن خريج مدارس أجنبية لربما كان الآن شاعراً بالعربية كما كان والده رشدي المعلوف. ولكن غربته داخل اللغة الأجنبية لم تنتج غربة وطنية أو وجدانية أو حضارية. فإلى العروبة ينتسب في نهاية الأمر، لا إلى هذه الملة أو النحلة الدينية أو الوطنية. وقد قال لي مرة إنه على الرغم من حبه الكبير للبنان، إلا أنه لا يتبنى طروحات الانعزاليين الذين يحصرون ولاءهم بلبنان وحده ويديرون وجوههم نحو البحر الأبيض المتوسط وأوربا. فنحن - والكلام لأمين معلوف - لنا تاريخ واحد هو التاريخ العربي، وحضارة واحدة هي الحضارة العربية الإسلامية. وهو سليل رسالة لبنانية ذات توجّه عروبي إلى الغرب، هدفت إلى نقل صفحات في تاريخنا وحضارتنا إليه. وقد أدّى أمين معلوف هذه الرسالة على أفضل وجه في رواياته المعروفة، فبرهن على نبل في المقصد كثيراً، أعوز الكثيرين من الشرقيين الذين باعوا الغربيين مواد مغشوشة ودغدغت غرائزهم من أجل أن ينالوا رضاهم، فهو إذن رسول مخلص لحضارة عربية وشرقية لا متأبط شرّ، ولا منشقاً. لذلك ينبغي عندما يتحدث عن قضايانا وأحوالنا، أن نُنصت له، وأن نستخلص من حديثه ما يُعيننا في ما نسميه «الرحلة نحو المستقبل». قال لي أمين معلوف إنه لا يفهم لماذا لا يكون هناك تقارب حقيقي بين مدينة إسبانية تقع مقابل الشاطئ المغربي، ومدينة مغربية تقابل هذه المدينة الاسبانية. قال: «إننا نجد تقارباً حميماً بين هذه المدينة الاسبانية ومدينة تقع في لاتفيا أو بولونيا، أكثر مما نجد بين هذه المدينة الاسبانية ومدينة مغربية لا يفصل بينهما أكثر من 20 أو 30 كيلومتراً لا غير»! وهذا غريب في رأيه، ويعتبر أفضل تعبير عن انكفاء العرب، أو المسلمين، عن الحضارة الحديثة.