ما زال البعض يظن أن الحديث عن النظم الاجتماعية وبداية إنشاء وإقرار مؤسسات المجتمع المدني، أو حتى ما يُعرف الآن في المجال السياسي بالاتفاقات الدولية، في شتى مجالاتها الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية، ما هي إلاّ مصطلحات معاصرة لعلوم وممارسات حديثة، ليس لها جذور في تاريخ البشرية إلاّ من خلال ما دونته كتب التغيّر الاجتماعي المعاصر، وهو ما تنفيه كتب التاريخ القديم التي تذكر أن أساليب ونظم الجوازات والجمارك والأحوال المدنية عُرفت بمهامها الحديثة منذ زمن يفوق الألف عام، وهو ما تحكيه لنا كتب الرحالة المسلمون الذين تنقلوا بين أصقاع العالم القديم، ونزل بعضهم بالجزر المنسية أو ما نسميه الآن العالم الجديد، غير الأمريكيتين وقارة أستراليا. تأشيرات السفر كانت معروفة منذ القدم بل إن هذه المدونات والكتابات استمرت تمثّل لعامة الناس الدليل السياحي والاستثماري وربما السياسي، الذي من خلاله استطاع بعضهم استشراف العالم البعيد، حيث لم تخل بعض الرحلات من الجانب العسكري والتسويق السياسي، إلاّ أن معظم ما وقع بأيدينا من هذه الكتب، كان قد أعد للتعريف بالعوالم البعيدة، وتتبع نقل أحوال الناس في كل قطر من أقطار هذا العالم الفسيح، لا سيما في عاداتهم وتقاليدهم وطقوس معتقداتهم، وطرق تعاملهم التجاري والاستثماري، وكذلك التبادل الثقافي والصناعي بين الشعوب البائدة والأمم السالفة. عملية ورقية نقلت كتب الرحلات ظواهر وطقوس وتعاملات بين الأمم والشعوب، كنا نظن أنها مقصورة على زماننا هذا، ولولا أن الرحالة المسلمين قبل أكثر من ألف عام نقلوها لنا، لما أدركنا حينها حقيقة البحث عنها في حضارة العصور الوسطى، فقد ذكر "ابن بطوطة" أن أهل الصين كانوا يتبايعون بالعملة الورقية، وكان "ابن كثير" في كتابه "البداية والنهاية" قد أشار إلى هذا، رغم أنه لم ينقله من "ابن بطوطة" لتقارب زمنيهما، ولعدم وصول كتاب ابن بطوطة آنذاك إلى الشام، وقد وثق "ابن بطوطة" ذلك بقوله: "وأهل الصين لا يتبايعون بدينار أو درهم، وجميع ما يتحصل في بلادهم يسبكونه قطعاً"، أي قطع من الذهب من دون أن يسكوا به الدراهم، ثم قال: "وإنما بيعهم وشراؤهم بقطع كاغد، كل قطعة بقدر الكف مطبوعة بطابع السلطان، وإن تمزقت الكواغد في يد إنسان، حملها إلى دار السكة عندنا، فأخذ عوضها جدداً ودفع تلك"، وهو ذات النظام العالمي المعمول به اليوم، علماً أن الكاغد نوع من أنواع الورق القديم، وكان الأهالي في نجد يتعاملون قبل مئات السنين بالعملة الورقية التي يسمونها (الخيفانة) نسبة إلى نوع من الجراد كانوا يسمونه بهذا الاسم، وذلك لخفتها وسرعة طيرانها. وقد شاهد ابن بطوطة أثناء زيارته لمالي والسودان أن الأهالي هناك لا يحملون القطع النقدية بل يتبايعون بالحلي والزجاج والخرز وبعض السلع العطرية وقطع الملح وهذا من غريب ما شاهده. سبقونا في «التأشيرات» و«التفتيش» ورسوم الجمارك وإحصاء السكان والعملات والتأمين الاجتماعي ودور الإيواء شيك عباسي كان الرحالة المسلم "ناصر خسرو" -الذي ولد عام (394ه)- قد ذكر في رحلته الشهيرة أنه حين نزل سوق البصرة في العصر العباسي وجد أهلها يتبايعون بما نسميه الآن "الشيك المصرفي"، بل ذكر أن أصحاب المصارف بسوق البصرة كانوا يستقبلون إيداعات رواد السوق، عبر مصارف تجارية أنشئت لهذا الغرض، ويحصل المودع من صاحب المصرف إقراراً باستلامه الأموال، وفي حال شراء البضائع يدفع المودع لصاحب المتجر "شيكاً" أو "إذناً" يقبض البائع قيمته من صاحب المصرف، وبذلك لا يدفع التجار النقود ولا يحملها من باب الحيطة والحذر، ولعل هذه العملية المصرفية والدورة الشرائية في زمنٍ متقدم من العصر العباسي، ظلت بعيدة عن أعين المؤرخين لا سيما المعنيين بالاقتصاد العالمي وتاريخ التجارة التي أغفلتها الرسائل والدراسات الاقتصادية قديماً وحديثاً. تحرير الشيكات عرفته البصرة في العهد العباسي إحصاء سكاني ولأن كتب الرحالة الأوائل استطاعت أن تجري الدراسات والمقارنات بين المجتمعات المختلفة، أثناء حقب زمنية متقاربة، فقد ذكر الرحالة "ابن حوقل" -الذي غادر بغداد عام 331ه- طريقة معتبرة في تعداد السكان وحصر المساكن، وقد قدر آنذاك سكان مدينة "بلرم" عاصمة صقلية بسبعة آلاف رجل ونيفاً، وعزا ذلك بقوله: "لأنه لا يقوم فيه -ويقصد الجامع الكبير بالمدينة- أكثر ستة وثلاثين صفاً للصلاة، وكل صف منها يزيد على مائتي رجل"، وبالطبع لقد راعى "إبن حوقل" العدد الإجمالي بأنه أكثر من هذا العدد؛ لأنه سيدخل من ضمنه النساء والصبيان وغير المسلمين، وإنما قدّر عدد الرجال لأن المساجد آنذاك عامرة بأهلها من سكان الحي، كما تدلل على ذلك كتابات الأقدمين الذين عنوا بالدراسات المجتمعية، وتصوير حال المجتمع في باديته وحواضره ك"الأصمعي" في مدوناته و"الجاحظ" في كتاباته و"المسعودي" في رحلاته، كما ذكر "إبن كثير" في "البداية والنهاية" طريقة رسمية يستخدمها الصينيون لحصر عدد السكان في أقاليمهم وقطاعهم أكثر دقة وتحرياً للواقع السكاني، وهي للحقيقة دراسة "ديموغرافية" متقدمة في زمانها وآلية تنفيذها. مهنة التفتيش ورسوم الجمارك مشهورة منذ قرون على سواحل الإسكندرية اكتشاف أمريكا لعل من عجائب ما نقلته كتب الرحالة الأوائل -مما غاب عن المكتبة العربية وحتى العالمية- البدايات الأولى في اكتشاف قارتي أمريكا الشمالية والجنوبية وسبر أغوار المحيط الأطلسي، وهو ما يسميه أجدادنا العرب بحر الظلمات، فعلى الرغم الاستشهاد العلمي الذي يسوقه بعض العلماء في بحوثهم، والتي تناولت ما نسميه الآن بالعالم الجديد، حيث استطاعت بعض الرحلات الإسلامية النزول في السواحل الشرقية من القارتين الجديدتين، بل لقد استشهد بعضهم بما توصل له علماء اللسانيات من وجود كلمات عربية في لغة هنود أمريكا، وإلى أن "كولومبس" وجد أثناء رحلته الثالثة زنوجاً وذهباً أفريقياً في جزائر الهند الشرقية، وقد ذكر "أنستاس ماري" في مقال له في مجلة المقتطف في عددها الثاني مجلد 106 في فبراير عام 1945م أن مدينة بعض الجماعات الوطنية في أمريكا تشبه المدينة الإسلامية إلى حد كبير، وبصرف النظر عن صدقية مثل هذه الدراسات. فقد كتب الرحال "الشريف الإدريسي في كتابه": "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" عن ثمانية فتيان خرجوا من مدينة لشبونه بالأندلس وقطعوا بحر الظلمات "الأطلسي"، وعلى الرغم من مخاطرتهم في قطع هذا البحر، إلاّ أنهم بعد مدة طويلة، وصلوا إلى مكان لا تستطيع السفن تجاوزه، فتنحوا عنه إلى الجنوب اثني عشر يوماً، عدا المرة التي كانوا قطعوها منذ خروجهم من لشبونه إلى أن نزلوا بجزيرة يكثر فيها الغنم ثم واصلوا رحلتهم جنوباً اثني عشر يوماً إلى أن نزلوا بجزيرة فيها عمارة وحرث فقصدوها، وعند اقترابهم منها أحاطت بهم زوارق حاكم الجزيرة وهناك قابلوا الحاكم ووجدوا عنده ترجمان "مترجم" عربي، قص قصتهم على الملك الذي وعدهم خيراً وأرسلهم إلى السجن، ثم رحلهم مع رجاله إلى مجاهيل بحر الظلمات، وبعد أيام أنزلوهم إلى جزر بريريه ربما كانت جزر الخالدات "الكناري"، حتى عادوا إلى بلادهم وما زالت تجربتهم ومغامرتهم حديث أهل لشبونه، بل لقد عرف الدرب الذي يسكنونه باسم درب المغررين أي أنهم غرروا بأنفسهم وخاطروا بركوبهم لهذا البحر. البصرة في العهد العباسي شهدت حضارة إنسانية متقدمة وكان وصف "الشريف الإدريسي" لأهل تلك الجزر وفقاً لما ذكره هؤلاء الفتية بقوله أنهم: "رأوا رجالاً شقراً، زعروا شعور رؤوسهم، شعورهم سبطه، وهم طوال القدود ولنسائهم جمال عجيب"، ويعلّق صاحب "الرحالة المسلمين في العصور الوسطى" الدكتور "زكي محمد حسن" متتبعاً الطريق الذي سلكه هؤلاء الفتية، بأن نزولهم بجزر الخالدات كان آخر محطاتهم. ويذكر "القلقشندي" في "صبح الأعشى" في حديثه عن مملكة مالي في وسط أفريقيا، أن الملك "منسا موسى بن أبي بكر" حين نزل وهو في طريقه إلى الحج بمدينة القاهرة، أرسل له السلطان الناصر "محمد بن قلاوون" عام 724ه كبار موظفيه كي يستقبلوه، وقد ذكر "ابن خلدون" كيف احتفى الأمراء المصريون بضيفهم الحاج، وأثناء اللقاء ذكر حاكم مالي قصة ابن عمه الملك "محمد بن قو"، الذي كان كثيراً ما يردد أن "البحر المحيط له غابة تدرك"، ويقصد المحيط الأطلسي وفعلاً جهز مئات السفن التي شحنها بالرجال وأرسلها لتستطلع له ما وراء البحار، ولكنها بعد مدة طويلة تاهت في البحر ولم يبق منها إلاّ سفينة واحدة، وذكر قائدها بعد عودته أن جميع السفن الأخرى وصلت إلى "عرض لجة وادٍ له جرية عظيمة، فابتلع المراكب" حينها لم يصدقه السلطان واستخلف ابن عمه في الحكم نيابة عنه، واستعد في ألفي سفينة خصصها لرجاله، وألف أخرى للزاد، وخاض البحر في رحلة استكشافية عظيمة، فكان ذلك آخر العهد به وبرجاله، وقد يكون هؤلاء هم بداية سكنى العرب والأفارقة في الجزر الأمريكية، حيث تدلل الدراسات الحديثة أن نزولهم بها كان قديماً. الرحالة ابن بطوطة تأشيرة دخول في صورة حية لما نعيشه اليوم أثناء وقوفنا أمام موانئ السفن، بوابات الجوازات والجمارك، يذكر الرحالة "ابن جبير" أن نظام تأشيرات الدخول للبلاد، والتفتيش ودفع رسوم الجمارك، أسلوب متبع بين الممالك والبلاد، لا سيما في السواحل والموانئ وعلى بوابات المدن، حتى بين أقاليم الدولة الواحدة. وقد ذكر "ابن جبير" كيف أن ما نسميهم اليوم برجال "الجمارك" كانوا قد شددوا في تفتيشهم للقادمين إلى ساحل الإسكندرية، وكيف أن الأمر بدأ بتدوين كافة أسماء الوافدين، ثم تفتيشهم والتدقيق على حقائبهم وما يحملونه، ثم دفع رسوم الدخول، حتى أنه في زياراته الثانية اشتكى عبر قصيدة كتبها ل"صلاح الدين الأيوبي" من صلافة العاملين بالجمارك، بل ذكر "ابن بطوطة" أن لأهل الصين طريقة عجيبة في معرفة من يدخل إلى بلادهم ومن يخرج منها، وذلك أنهم كانوا يصورون كل من ينزل بحدود مملكتهم من الغرباء، ويقصد بالتصوير أنهم يعمدون إلى رسم وجوه الوافدين بمهارة ودقة، ويقول في سبب ذلك: "وتنتهي حالهم في ذلك إلى أن الغريب إذا فعل ما يوجب فراره عنهم بعثوا صورته إلى البلاد، وبحثوا عنه فحيثما وجد في تلك الصورة أخذ"، ثم استرسل في وصف ما نسميه الآن دوائر الأحوال المدنية والجوازات والجمارك في عصرنا الحالي. تعداد السكان وحصر المساكن يعود إلى القرن الرابع الهجري التأمين الاجتماعي ولأن مثل هذه الرحالات كثيراً ما كانت ما تربطنا بواقعنا المعاش، لا سيما حين تنقل لنا في معرض حديثها جزء من الحياة العملية ورحلة العامل والموظف مع وظيفته والمهام المناطة به، وكيف كانت عقود الإيجارة وأنظمة العمل والعمال، قبل مئات بل آلاف السنين؛ إذ يذكر "ابن بطوطة" حين نزوله بأرض الصين كيف كان الصينيون يتعاملون آنذاك "في القرن الثامن الهجري" مع ما نسميه الآن نظم التأمين الاجتماعي، وكذلك نظام التقاعد، حيث يُعفى العامل أو الصانع من أداء العمل وتنفق عليه الحكومة إن هو بلغ الخمسين من عمره، بل إن من يبلغ الستين من عمره يعامل معاملة الصبي، ولا تجر عليه الأحكام، كما أُعجب وهو بالصين ببعض منشآت الشؤون الاجتماعية، لا سيما البيوت المعدة لذوي الظروف الخاصة والأرامل والأيتام وكبار السن، وكان لبغداد وبلاد الشام ومصر والأندلس سبق فريد من نوعه في إقامة مثل هذه الدور والمصحات، التي تقدم خدمات الإيواء والعلاج وصرف الدواء بالمجان من خلال عوائد وموارد الأوقاف التي أنشئت لهذا الغرض، بل لقد أقام الخليفة "الوليد بن عبدالملك" وهو في القرن الأول الهجري مثل هذه الخدمات، وصرف الرواتب والمعاشات لغير القادرين على العمل، بل ألزم لكل مريض من يخدمه ويقوم على شؤونه وخدمته. تواصل إلكتروني تكاد المكتبة العربية والعالمية في عصرنا الحاضر تمتلئ بالمعلومات والمنقولات المكتوبة والمصورة عن العالم الآخر والمجتمعات البعيدة والقريبة، بل إن المعلومة الجغرافية والسياحة أصبحت رهينة إدارة مؤشر شاشات التلفزة والقنوات الفضائية، حتى أنها أصبحت تنقل لنا من خلال عدسة متنقلة أحوال الشعوب وتطور واختلاف المجتمعات، في الوقت الذي نتساءل فيه كيف كان حال الأمم والمجتمعات السابقة، لا سيما وأن أحوال الناس في المشرق والمغرب استمرت في عملية تبادل معلوماتي، رغم غياب الشاشة ومتصفح "النت" والرسائل المتلفزة والوسائط التي يمتلئ بها فضاؤنا الاتصالي، وهو في معظم أطواره وجل أحواله تواصل ثقافي معلوماتي، قرب البعيد ونقلنا من القديم إلى الجديد، الذي نشهد الآن تطوره في تقديم الخدمة والمعلومة، مع إيماننا التام بأننا مسبوقون من قبل أقوام وشعوب وحضارات، عرفت قبل مئات بل آلاف السنين جزء كبيراً مما نعيشه اليوم في حضارتنا وحياتنا المدنية، ولولا غياب بعض موروثات الأمم السابقة -لا سيما حضارتنا الإسلامية- عن أعين الباحثين من أبناء هذا الزمان، لجاز لأحدنا القول إن "الأوائل لم يتركوا شيئاً للأواخر". تاريخ وحضارة الأمم لا تزال بحاجة إلى تدقيق في عرض الروايات