وأخيرا اعتذر رئيس حكومتنا للأتراك عن "الأخطاء الميدانية" التي تسببت في مقتل تسعة من النشطاء الأتراك خلال هجوم الجيش على السفينة "مافي مرمرة"، التي حاولت كسر الحصار على غزة في مايو/أيار 2010. لقد استغرقه الأمر عامين وعشرة أشهر ليفعل ذلك، ليعتذر. لكن نتنياهو لم يكن مديناً بالاعتذار للاتراك، بل للاسرائيليين، وليس فقط على الأخطاء التي ارتكبها الجنود. ان القضية برمتها ليست الا قصة حماقة لا غير، من بدايتها وحتى نهايتها. ويمكننا أن ندرك ذلك بسهولة اذا ما نظرنا الى الماضي القريب، غير أنني ومن معي اعترضنا علناً على حماقة العملية قبل تنفيذها أساساً. ففي ذلك الوقت قلنا ان الضرر الذي سينتج عن اعتراض السفينة سيكون أخطر بكثير من الضرر – إذا كان موجوداً فعلاً – في إبحارها إلى هدفها. ما الذي سيحدث في النهاية؟ سترسو السفينة أمام شاطئ غزة، سيتم استقبال النشطاء الدوليين الذين على متنها باحتفال كبير، ستحتفل "حماس" بنصر صغير، وانتهى الأمر. بعد مرور أسبوع واحد، لن يأبه أي شخص لهذا الأمر، ولن يتذكره أحد. أوري أفنيري لقد فُرض الحصار رسميًا من قبل سلاح البحرية لهدف واحد فقط، وهو منع نقل الاسلحة إلى القطاع. لو كان ذلك هو الهدف الوحيد بالفعل، لكان من الممكن حل المشكلة بسهولة. كان يمكن لسلاح البحرية أن يعترض السفينة في عرض البحر، ويفتشها بدقة ويتركها. من هذه النقطة، تحول الأمر إلى قضية هيبة وكبرياء فقط. أنانية طفولية، سياسية وشخصية. باختصار: حماقة، غباء تام. لا يمكن لأحد أن يتنبأ بما سيحدث في أي عملية عسكرية. في معظم الحالات، لا تسير الأمور حسب الخطة. يجب توقع الخسائر. وكما سبق وقيل: الخطة نفسها هي الخسارة الأولى في كل حرب. إذن تفككت الخطة. فبدلاً من الخضوع للجنود الذين هاجموهم في المياه الدولية، بادر الأتراك بمهاجمة الجنود بالعصي والقضبان. لم يكن أمام الجنود المساكين بديل إلا قتلهم! كان من الأجدى الاعتذار على الفور أمام عائلات الضحايا، ودفع تعويضات سخية لهم وجعل النسيان يطوي المسألة كلها. لكن لا، ليس نحن الإسرائيليين. لأننا كنا على حق. نحن دائما على حق. لا يوجد خيار آخر، هذه طبيعتنا. ولهذا السبب أسأنا للمسافرين، سرقنا كاميراتهم وأغراضهم، وما تركناهم إلا بعد أن أهينوا كما يجب. اتهمناهم بالإرهاب. وكدنا أن نطالبهم بدفع تعويضات لجنودنا، الذين كانوا هم الضحايا الحقيقيون! إن الحماقة المتناهية في هذه القضية مضاعفة، وذلك لان تركيا كانت حليفتنا الأقرب في المنطقة. وأنشأ الجيشان التركي والاسرائيلي فيما بينهما علاقات وطيدة. وتمت توأمة خدمات الاستخبارات في الدولتين. واشتروا منا كميات كبيرة من المعدات العسكرية والخدمات. وأجرينا العديد من المناورات المشتركة. اضافة الى ذلك كان نصف مليون اسرائيلي يقصدون سنوياً شواطئ تركيا لقضاء اجازاتهم. لقد بدأ "شهر العسل" الإسرائيلي - التركي في السنوات الأولى من قيام اسرائيل، عندما تحدث دافيد بن غوريون عن "استراتيجية الضواحي". وهي الدول غير العربية المحيطة بالعالم العربي، وهي تركيا، وإيران، وأثيوبيا، وتشاد، وغيرها. لكن ماذا الذي اختلّ؟ يدّعي المتحدثون باسم حكومة المغفلين أن العلاقات كانت ستختلّ حتى من دون قضية السفينة "مافي مرمرة". وذلك بسبب توجه تركيا نحو العالم بعد أن رفضها الاتحاد الأوروبي وأهانها. إضافة إلى ذلك، انتزع حزب ديني الحكم من ورثة أتاتورك الكبير، وخاصة من الجيش. لكن حيال هذه التطورات، ألم يكن من الأصحّ أن نعالج علاقاتنا مع الأتراك بحذر كبير؟ عوضا عن ذلك، قام نائب وزير خارجيتنا، داني أيالون، بعمل غبي، وذلك عندما دعا السفير التركي لتوبيخه، وقدم له مقعدا أقل ارتفاعًا من مقعده. ودعا وسائل الإعلام لتشاهد الإهانة. إن صيغة الاعتذار على قضية السفينة قد تم إقرارها قبل أكثر من عامين. وألحّ الجيش الإسرائيلي على الحكومة بأن تقبله. لكن وزير الخارجية آنذاك، أفيغدور ليبرمان، وضع وزنه الثقيل كله على كفة الميزان وفرض (فيتو) على ذلك. نحن شعب ذو عزّة نفس ولدينا جيش ذو عزّة نفس مؤلف من جنود أعزاء النفس. باختصار، الإسرائيليون لا يعتذرون، أبدا. وبما أن بنيامين نتنياهو كان يخاف من ليبرمان. كان عليه التصرف بمكر. ليبرمان هو الآن وزير خارجية مؤقت. لا يمكنه العودة إلى منصبه، إلا بعد أن تتم تبرئته – إذا حدث ذلك – من تهمة الرشوة التي قدمت ضده. لكنه لا يزال رئيس حزب "إسرائيل بيتنا"، الذي يحتاجه نتنياهو ليحافظ على الأغلبية في الكنيست. لذلك تم تفعيل خطوة ذكية. تم عقد الاتفاقية مع الأتراك منذ فترة، وانتظر الفرصة المواتية. ولم تكن هناك فرصة أفضل من زيارة الرئيس الاميركي أوباما إلى إسرائيل. وكان اوباما مسروراً بلعب دور الوسيط. وتم الاتفاق على أن الإعلان عن الصفقة سيكون في الدقائق الأخيرة من الزيارة فقط. لماذا ؟ ببساطة لكي يتمكن نتنياهو من الادعاء أن القرار قد اتخذ في اللحظة ذاتها فقط، في الثانية الأخيرة تماما، بمكالمة هاتفية مع الزعيم التركي التي أجريت بمبادرة أوباما. لذلك لم يكن بمقدور نتنياهو أن يتشاور مسبقا مع أعضاء الحكومة ومع ليبرمان. صبياني؟ بالتأكيد. طفولي؟ دون أدنى شك. هل هذا يحدث في إسرائيل فقط ؟ أشك في ذلك. إني أخشى أنه في معظم الدول، الكبيرة منها والصغيرة على حد سواء، تُعالج القضايا السياسية المصيرية بنفس الأسلوب. وليس فقط في أيامنا هذه. إنها فكرة مخيفة، ولذلك فمعظم الناس ليسوا قادرين على تقبلها. إنهم يريدون التصديق أن مصيرهم موضوع بين أيدي زعماء مسؤولين، ذوي كفاءة عالية. المثال التاريخي الأول الذي يخطر ببالي هو الحرب العالمية الأولى قبل قرابة مائة عام. قامت مجموعة من الوطنيين الصرب بقتل ولي العهد النمساوي. لقد كان ذلك حادثا مؤسفا، لكن بالتأكيد ليس سبباً لحرب قُتل فيها ملايين البشر. ولكن الحمقى الذين كانوا يحيطون بالقيصر البالغ من العمر 84 عاماً في فيينا اعتقدوا أنها فرصة ذهبية لإحراز انتصار سهل، ووجهوا إنذاراً إلى صربيا. القيصر الروسي، الذي كان محاطا بالنبلاء، أراد مساعدة الصرب، اخوته السلافيين، وأعلن التجنيد العام. ولم يكن يعرف، على ما يبدو، بوجود خطة عسكرية ألمانية، وُضعت قبل سنوات من ذلك. بموجب هذه الخطة، في اللحظة التي تعلن فيها روسيا عن التجنيد العام، يقوم الجيش الألماني بغزو فرنسا، لكسرها قبل أن يتمكن الجيش الروسي من الوصول إلى الحدود الألمانية. البريطانيون، الذين لا يحبون الزعماء الأذكياء أكثر مما يجب، هُرعوا لمساعدة فرنسا. وهكذا تسلسلت الأمور. هل يمكن أن يكون جميع هؤلاء الزعماء حمقى؟ هل كانت اوروبا تحت حكم الاغبياء ؟ ربما. لكن من المحتمل أنه كان بينهم أشخاص ذوو ذكاء معقول. هل كان اللورد اكتون محقاً عندما قال "ان الحكم لا يُفسد فقط، بل يجعل المرء أحمق؟" على أي حال، عرفت في حياتي الكثير من الأشخاص العاديين، الذين فعلوا عند وصولهم إلى الحكم أفعالاً تافهة للغاية. حادثة السفينة التركية هذه تذكرني بطرفة شعبية لدينا، سبق أن ذكرتها وقت الحادثة. تقول الطرفة ان أماً يهودية كانت توصي ابنها الذي تجند في جيش القيصر الروسي في القرن التاسع عشر للقتال ضد تركيا وقالت له "لا تجهد نفسك أكثر مما يجب!.. اقتل تركياً وارتح. اقتل تركياً آخر وارتح مرة أخرى. اقتل..." ، فقاطعها الشاب قائلا "ولكن يا أمي، ماذا لو قتلني التركي؟" عندها صاحت بدهشة "يقتلك؟ لماذا، ماذا فعلت له؟!" وعليه أقول "اقتل تركياً واعتذر". «كتلة السلام» الاسرائيلية