أتعلم أيها الجد الحنون ما حل بدنيانا بعد رحيلك.. شعور الفقد المميت يختلج الصدور الحزينة، أمي واخوتها ما زال الدمع جليسهم وإن كان خفيّا في قلوبهم, وذكراك لا تفارقنا أبدا.. انقباضة في قلبي لم تنفّك منذ رحيلك.. والعديد من الرؤى تشير الى أن ذلك العزيز يخبرني برحيله بطريقة غير مباشرة. في مرضك يا جدي.. كل الذكريات انهالت بطريقة يعجز اللسان عن وصفها.. ففي لحظة الغداء بكت أمي لذكرى كرات الأرز التي تعدّها بيديك الطاهرة لتبريدها لأبنائك كي يتنافسوا على أكلها وإن أبى أحدهم عن أكلها, امتنعت بدورك عن الأكل.. وتخبره أن الجوع يوخز بطنك, الكثير من الذكريات تتوارد على أذهاننا واحدة تلو الأخرى.. في فترة الامتحانات توقظ أمي بعد أن تقوم انت باعداد الشاي فتجلس بالقرب منها كي لا تسهر وحيدة.. وحرصك الشديد عند مرض أحد أحفادك حيث كنت ترقد وبجانبك دواء (أبو زهرة) الذي تسقيه لنا في كل مرة يداهمنا التعب.. يا صاحب القلب الكبير.. أخبرني.. كيف أنساك؟! نعم الأب والجد والعم أنت.. بعد أن انتشر خبر رحيلك أخبر إمام المسجد المجاور جميع المصلين ليأتوا لوداعك الأخير.. حيث كان مفتاح المسجد بحوزتك لتأتي قبيل أذان الفجر للمسجد فتشعل الإنارة وتفتح الأبواب وتذكر الله لحين دخول وقت الصلاة. أثنا مرضك نسيت كل شيء إلا الصلاة فلم أعهدك إلا تنادي: (جاء وقت الصلاة ولا لا) وفي غيبوبتك.. رغم نومك العميق تفتح عينيك الناعستين فتخبرمن حولك (الصلاة.. صليتو..!) ثم تغط في غيبوبتك مرة أخرى. وفي فترة بقائك في المشفى.. قال الدكتور المشرف على حالتك.. لم أر مثل هذا الشيخ الكبير في هدوئه وعدم تأففه وتحملّه للألم رغم صعوبة ما يمر به. وفي ساعة الاحتضار دمعت عينا أحد المشرفين على حالتك الصحية في الفريق الطبي بعد تلفظك بالشهادة ثم تبعتها بكلمتك المعتادة (الصلاة الصلاة)! وخرجت روحك مطمئنة ليخبرنا بأنه لم ير مثل سهولة خروج روحك.. وماذا عساي أن أقول يا جدّي.. لقد اكتظ المسجد حين الصلاة عليك والكل يلهج بالدعاء لك.. وفي العزاء عج بيتك والشوارع المجاورة بالمعزّين.. (يبه) .أتعلم شيئاً أخبئه في صدري ويشاركني به من يعرفك بأن استيعاب الواقع في بعض الأحيان مرير أكثر من الحدث نفسه.. أشتاق كثيرا ياجدي.. كثيراً لدرجة شعوري بالاختناق في كل مرة أذكرك فيها.. لدرجة أيضاً شعوري ببرودة في أطرافي لحظة تعمقي في ذكرياتك.. باب للجنة اوصد؟؟ سأفتقد بركة كانت ترافقني في كل أمر ودعائك لنا في كل مرة تشاهدنا.. رغم شدة ضعف سمعك إلا أن تلك الابتسامة الصادقة التي ترتسم على وجهك المتسامح.. سأفتقدها بشدة. لن أنسى سبابتك الطاهرة التي ترفعها لتخبرني بأنك لا تريد سوى فنجان قهوة واحد.. تعود بعدها لذكر الله دائماً.. والكثير من ذكرياتك التي تجعل تنهيدة عميقة تخرج من الصدر عند كل ذكرى.. أسأل الله أن يؤنس وحدتك ويرحم ضعفك ويبدلك داراً خيرا من دارك وأهلا خير من أهلك ويرزقك الجنة من غير حساب ولا سابق عذاب، وأن يحشرك مع الشهداء والصالحين والأنبياء والصديقين وأن يثيبنا على فقدك ويجبرنا على رحيلك ونلتقي في جنة عرضها السماوات والأرض.. آمين.