الأمة التي تُهان كرامة أبنائها ويُداس على قيمها ومبادئها ولا تحرك ساكناً ولا ترفض الظلم والضيم، فإن هذا الامتهان هو البوابة الكبرى لدخول الأمة جمعاء في براثن التبعية والذيلية وارتهان إرادتها واستقلالها وقرارها لصالح العدو الحضاري للأمة. للمآزق التاريخية التي يعاني منها المجال الإسلامي اليوم، تعبيرات ومؤشرات عديدة ومتنوعة، بعضها يرتبط بطبيعة الاختيارات الأيدلوجية والسياسية، والبعض الاخر بأوضاع المسلمين الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والثقافية. إلا أنه بالإمكان تكثيف هذه التعبيرات والمؤشرات في مقولة واحدة هي غياب وتغييب الديموقراطية من حياة المسلمين على مختلف الصُعد والمستويات. وأن الخروج من هذه المآزق التاريخية، بحاجة إلى تحرر الإنسان المسلم من أوهامه وهواجسه المعيقة لفعاليته وحركيته وديناميته، والانطلاق في رحاب العمل والبناء. فلا يمكن أن تتجذر الديموقراطية والحرية في واقعنا ومحيطنا، بدون التغيير الذاتي. «فالقوة والفعالية والازدهار والحضور، كل ذلك يتحقق بتحرر الواحد عن مسبقاته وأوهامه الذاتية، بتغيير صورته عن نفسه وإعادة ابتكاره لدوره، للمساهمة في تكوين المشهد العالمي، عبر خلق واقع جديد، أو القيام بإنجاز حضاري، أو اقتحام مناطق جديدة للتفكير والعمل. بمعنى آخر: إن الدور الفاعل لا يُمارس إذا بقي الواحد، فرداً كان أو مجموعاً، أسيراً بمعنى معين أو سجين صورة ماضية، بل يمارس بالاشتغال على الذات والعمل على تغييرها، للانخراط في صناعة العالم، ونسج علاقات فاعلة وراهنة مع الواقع، وذلك بخلق إمكانيات جديدة للوجود والحياة، تتغير معها جغرافية المعنى وعلاقات القوة». (علي حرب، الأختام الأصولية والشعائر التقدمية، مصائر المشروع الثقافي العربي، ص 60) وحده الإنسان المتحرر من هواجسه ومخاوفه ونزعاته الشريرة، هو القادر على صناعة الحرية وحمايتها من كل الأخطار والمآزق. وبدون أن نتغير ونتطور كأفراد باتجاه قيم الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، ستبقى هذه القيم شعارات بدون وقائع وحقائق، ومشروعات بدون إرادة الإنجاز والتنفيذ. وذلك لأن محاولات التغيير بدون الالتفات إلى الذات وتوفير متطلبات التغيير فيها، سيحولها على المستوى الفعلي إلى محاولات لتكريس الثبات والتخشب وحالات الجمود. على نحو تلغيم محاولات التغيير، باكراه دعاته على فعل ما يتناقض مع قناعاتهم أو ما يُعد تراجعاً عن دعواتهم على حد تعبير الدكتور (علي حرب). فالديموقراطية قبل أن تكون أشكالا سياسية ونصوص دستورية، هي خروج كل فرد فينا عن أنانيته وأفقه الضيق ومغادرة تلك الأفكار الآحادية والإقصائية والاستغنائية، التي لا تزيد إلا بُعداً عن الديموقراطية ومتطلباتها الفكرية والمجتمعية. لذلك فإن النواة الأولى للديموقراطية، هي الاحترام العميق للآخرين مشاعر وأفكاراً ووجوداً، ومساواة الآخرين بالذات.. إذ جاء في الحديث الشريف: «ما كرهته لنفسك فاكرهه لغيرك، وما أحببته لنفسك فأحببه لأخيك، تكن عادلاً في حكمك، مقسطاً في عدلك، محباً في أهل السماء، مودوداً في صدور أهل الأرض». و(أن من حقيقة الإيمان أن تؤثر الحق وإن ضرك علِى الباطل وإن نفعك). إن هذه التعاليم والتوجيهات الإسلامية، تؤكد على أن بداية الصلاح هو الإنسان نفسه، فلو التزم كل إنسان بالتعاليم الربانية، تأسس الواقع الاجتماعي على ضوء وهدى هذه القيم. فلا ديموقراطية إلا باحترام عميق للآخرين، وخضوع تام للحق والحقيقة.. لذلك جاء في الحديث الشريف «ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك، ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً». و(العاقل من كان ذلولاً عند إجابة الحق، والعاقل لا يتحدث بما ينكره العقل، ويكون العلم دليله في أعماله، والحلم رفيقه في أحواله، والمعرفة تعينه في مذاهبه). وهذا يتطلب منا جميعاً أفراداً وجماعات، أن نتصالح نفسياً ومعرفياً واجتماعياً وسياسياً مع الديموقراطية، بحيث تكون مقتضاياتها ومتطلباتها السياسية وإجراءاتها القانونية وشروطها الدستورية، ليست خطوة تكتيكية ومرحلية، وإنما هي مصالحة دائمة، ينبغي أن تنبثق من قناعاتنا الفكرية وتصوراتنا الثقافية، قبل أن نفكر في المكاسب السياسية لهذه المصالحة فهي خيارنا الاستراتيجي النابع من تصورنا وفهمنا للقيم الإسلامية، التي تؤسس لمبدأ المشاركة والمراقبة والتداول والحرية واحترام الآخرين والإنصات إلى آرائهم وقناعاتهم وأفكارهم، وضرورة الخضوع للحق والحقيقة بصرف النظر عن الاعتبارات الثانوية التي قد تحول دون الالتزام بمتطلباتها. والديموقراطية تختزن «في داخلها بعض الايحاءات والمعاني التي تلتقي بالحالة الإنسانية المنفتحة على احترام الإنسان الآخر في رأيه وفي وجوده، وعلى خط العدل الذي يلتفت إلى الناس بكل موضوعية واتزان في مواجهة الظلم والتعسف والاستبداد الذي تمثله كلمة النظام الاستبدادي بحيث تحولت الكلمة إلى مضمون أخلاقي وإنساني بعيداً عن المضمون القانوني الدقيق».. لذلك يدعونا القرآن الحكيم إلى الاستماع إلى الأقوال واتباع أحسنها. إذ يقول تبارك تعالى: {بشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب}.. (سورة الزمر، الآية 18). وفي إطار استراتيجية المصالحة مع الديموقراطية ينبغي التأكيد على النقاط التالية: 1) ضرورة بعث المضمون الحضاري للإسلام، وتجاوز القراءات القشرية والسطحية للدين، التي لا ترى فيه إلا جملة من الطقوس الفردية والشعائر الظاهرية والشكلية. واستدعاء تلك القيم والمبادئ العليا، التي استطاعت أن تبني مجتمعاً جديداً بقيم جديدة ووفق ومبادئ ومثل تتجاوز كل النزعات الانانية والاقصائية. فالمصالحة مع الديموقراطية، لا تتطلب التأويل المتعسف للدين وقيمه، وإنما هي بحاجة إلى حضور القيم الإسلامية العليا في الواقع الاجتماعي. وإن سيادة هذه القيم، هو الذي يوفر ظروفاً ذاتية وموضوعية باتجاه الانسجام مع متطلبات المشاركة والحرية والتداول السلمي للسلطة وصيانة المكتسبات الإنسانية. فالإسلام يحارب الجهل، ويدعو إلى التحرر منه ومن آثاره الخاصة والعامة، ويغرس في نفس الإنسان قيم الكرامة ورفض الظلم والضيم، وصناعة الوعي الذي يدفع الجميع إلى المطالبة بكرامتهم المسلوبة، والعمل بكل الطاقات والإمكانات لإعادة الحقوق المستلبة. وقيم الإسلام ليست حبيسة الماضي، وإنما تطل على الإنسان وراهنه بحركيتها وحيويتها وفعاليتها، لكي تدفع الراهن نحو التشبث بالكرامة والحرية والعزة، حتى لو تطلب الأمر التضحية بالنفس في سبيل نيل الحرية وصون الكرامة الإنسانية. وذلك لأن إنجاز الحرية في الواقع المجتمعي من أهداف الدين وغاياته العليا التي ينبغي المحافظة عليها، وخلق الوقائع المجتمعية التي تحميها وتطور آفاقها في الواقع الاجتماعي. فقد قال تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً}.. (سورة الإسراء، الآية 70). والكرامة الإنسانية هي بوابة الحرية، إذ لا حرية لمن لا كرامة له. أي أن الكرامة الإنسانية هي التي تدفع الإنسان إلى دفع ثمن الحرية، وهي التي تجعله يدافع عنها ويحميها من كل المخاطر والشرور. لذلك نجد أن التعاليم الإسلامية تؤكد على قيمة الكرامة والعزة، وتحدث الناس على استعدادتهما والانعتاق من ربقة الذل والمهانة. وذلك لأن الإنسان الذليل، لا يستطيع أن يحافظ حتى على حقوقه الشخصية فضلاً عن حقوق الأمة. قال تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}.. (سورة النحل، الآية 90). وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسعٌ عليم}.. (سورة المائدة، الآية 25). وجاء في الحديث الشريف: «إن الله فوض إلى المؤمن أمره كله ولم يفوض إليه أن يكون ذليلاً، فإن المؤمن أعز من الجبل يستقل منه بالمعاول، والمؤمن لا يستقل من دينه شيء». والأمة تمتهن كرامتها، ترتهن إرادتها، بمعنى أن الأمة التي تُهان كرامة أبنائها ويُداس على قيمها ومبادئها ولا تحرك ساكناً ولا ترفض الظلم والضيم، فإن هذا الامتهان هو البوابة الكبرى لدخول الأمة جمعاء في براثن التبعية والذيلية وارتهان إرادتها واستقلالها وقرارها لصالح العدو الحضاري للأمة. لذلك فإن الدفاع عن الكرامة، هو دفاع عن استقلال الأمة ومستقبلها. فامتهان الكرامة، يعني المزيد من الإخضاع والتركيع، والوقوف بوجه كل المحاولات التي تستهدف النيل من كرامة الأمة وعزتها، يعني الوقوف ضد كل من يحاول تحريف مسيرة الأمة وتزييف قناعاتها وسرقة جهودها وجهادها. والعمل الجاد ضد كل محاولات الارتهان والتبعية بكل صورهما وأشكالهما. لذلك فإن امتهان كرامة الإنسان، دون التصدي لعملية الامتهان والتحقير، يعني المزيد من الإخضاع والتركيع، والوقوف بوجه كل المحاولات التي تستهدف النيل من كرامة الأمة وعزتها، يعني الوقوف ضد كل من يحاول تحريف مسيرة الأمة وتزييف قناعاتها وسرقة جهودها وجهادها، والعمل الجاد ضد كل محاولات الارتهان والتبعية بكل صورهما وأشكالهما. لذلك فإن امتهان كرامة إنسان، دون التصدي لعملية الامتهان والتحقير، يعني على المستوى العملي انتقال هذا الامتهان إلى الجميع. وذلك لأن من يجرؤ على امتهان كرامة إنسان، فإنه سيستمر في جرأته إذا لم يردعه رادع لتطال كل المجتمع والأمة.. إذ قال عز من قائل: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً ولقد جاءتهم رُسلنا بالبينات ثم أن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون} (سورة المائدة، الآية 32). فالمصالحة مع الديموقراطية في المجال الإسلامي، تقتضي بعث وحضور قيم الإسلام الحضارية في الفضاء السياسي والثقافي، حتى تتوفر الحركية الاجتماعية القادرة على نبذ الجمود والسكون، وتعزيز خيار النهوض الحضاري. 2) التواصل الثقافي والسياسي مع التجربة الإنسانية الحديثة، حتى يتسنى لنا استيعاب التجربة وهضم دروسها وآليات عملها والانفتاح الدائم على عوامل تطورها وتجذرها في الفضاء الاجتماعي. إن الديموقراطية في التجربة الإنسانية المعاصرة، هي عبارة عن عملية تطور تاريخي - اجتماعي، استطاعت أن تجتاز الكثير من المحطات والعقبات، وتكيفت مع العديد من الوقائع والحقائق الاجتماعية الايجابية، وعملت على بث الحياة فيها وتطويرها. لذلك فإننا حينما نقرأ ونتواصل مع تجربة الديموقراطية في الغرب، فإننا نقرأ ونتواصل مع تجربة تاريخية كبرى، استطاعت فيه الأممالغربية أن ترسخ هذا الخيار في واقعها وتطوره، كما أنها جابهت بحسم كل الوقائع المضادة والمناقضة لهذا الخيار، ودفعت أثماناً باهظة خلال تجربتها التاريخية. وتواصلنا الثقافي والسياسي مع هذه التجربة، يعني العمل على توفير أسباب النجاح في واقعنا، والانتصات الواعي إلى حركة تطور الديموقراطية في التجربة الغربية، والعمل على تقوية الحامل الاجتماعي والثقافي والسياسي لهذا المشروع في فضائنا الاجتماعي والإنساني. فالتواصل الثقافي والسياسي، ليس من أجل الانبهار بالتجربة أو الانشغال بالنتائج دون دراسة الأسباب والشروط الاجتماعية والثقافية للتجربة. إننا مطالبون في سياق التواصل مع تجربة الديموقراطية في العصر الحديث، أن نبحث في جذور التجربة وعوامل نجاحها وتجذيرها النوعية، حتى تتوفر لنا الفرصة لخلق وعي ديموقراطي عميق بهذا الخيار والسبل العملية والممكنة لإنجازه وترجمته إلى واقع عملي. فالتواصل مع تجربة الديموقراطية المعاصرة، هو من أجل اكتشاف وخلق فرص جديدة للنهضة الحضارية لمجالنا الإسلامي على أُسس ومبادئ ذاتية وإنسانية. والمصالحة مع الديموقراطية، بحاجة إلى فهم عميق ومتواصل إلى طبيعة التجربة الديموقراطية في المجال الغربي وآليات عملها وسبل تعميقها في الفضاء الاجتماعي، وذلك حتى يتسنى لنا اجتراح تجربتنا الديموقراطية على قاعدة من المعرفة والخبرة والتجربة. 3) إن المصالحة مع الديموقراطية في البيئة العربية والإسلامية، بحاجة إلى إرادة مستديمة، تتجه صوب تفعيل وتنشيط الإمكانات الأهلية والمدنية، لكي تشارك في تعميق الخيار الديموقراطي في المجتمع. وإلى مقاومة كل الموروث السلطوي والاجتماعي الذي يقف دون تطور مستوى المسؤولية والمشاركة. إذ لا يمكن أن تتم المصالحة مع الديموقراطية ومتطلباتها مع وجود إرث سلطوي واجتماعي يقمع المبادرات ويسفه الإبداعات ويمجد البقاء والتوقف، وينبذ التغيير والتطوير. إن هذه الإرادة الإنسانية، بحاجة إلى عمل متواصل وحكمة دائمة وصبر طويل، وذلك من أجل تفكيك هذا الإرث الاستبدادي والسلطوي، الذي لا يسمح بأي شكل من الأشكال بتوسيع حالة المشاركة في الشأن العام، وتؤصل لقيم التسامح والحرية والعدالة وحقوق الإنسان، وتحول دون ممارسة الفرد لفرديته وذاتيته على نحو ايجابي. وإن استراتيجية المصالحة مع الديموقراطية، هي مشروع مفتوح للتغيير الثقافي والاجتماعي والتطوير الاقتصادي والتأهيل النفسي وخلق الحقائق والمؤسسات وتحفيز الإنسان على المبادرة والإبداع والطموح، وتوفير كل شروط ديمومتها ليس على المستوى الفردي فحسب، وإنما على المستوى الاجتماعي والعام أيضاً. فالمصالحة مع الديموقراطية، هي عبارة عن برنامج متواصل لتفكيك وتعطيل كل مكونات الفعل المستبد في المجتمع، والعمل المتواصل على خلق بدائل ثقافية واجتماعية وسياسية، تعلي من شأن المسؤولية والمشاركة، وتمارس الديموقراطية بكل مستوياتها، وترفد واقعها باستمرار بثقافة المساءلة والنقد والجديد. وهكذا تتحول استراتيجية المصالحة مع الديموقراطية، إلى رهان حقيقي وصادق، يتجه صوب تنقية الفضاء السياسي والثقافي والاجتماعي من شوائب الاستبداد وموجات العنف والإقصاء والنبذ، ويؤسس لحقائق اجتماعية وثقافية وسياسية، تزيد من فرص المشاركة والتداول، وتهذب وتضبط السلوك السياسي العام، بحيث يكون أقرب إلى قيم العدالة والحرية والتسامح. بمعنى أن يكون العمل السياسي بكل مستوياته وأشكاله وسيلة من وسائل صون الحريات والمكتسبات الحضارية، وبعيداً عن كل أشكال التوحش وأنماط العنف والقهر.