لا يمكن لأي أيديولوجية سواء كانت دينية أو مذهبية أو عرقية أو أثنية تسعى لإخلاء الساحة مما سواها إلا وهي في نفس الوقت تعبد الأرض وتسهل الدرب لاضطهادها وإخلاء الساحة منها هي الأخرى في يوم من الأيام، وتحديداً عند أية فرصة قادمة تمسك بها الأيديولوجيات المضطهدة والمقسورة على إخلاء الساحة للغالب، هذا قانون اجتماعي معروف ومجرب وما انفك يعرض نتائجه المبنية على مقدماته في كل أرض تبتلى بالاضطهاد والاستبداد وأحادية الرأي. بناءً على معطيات هذا القانون، فإن الأحادية لا تلبث إلا أن تتحول إلى عملية دائرية مكونة من اضطهاد واضطهاد مضاد وإقصاء وإقصاء مماثل، إذ أن الأيديولوجية المقصاة والمضطرة قسراً لإخلاء الساحة لغيرها سواء كانت ساحة دينية أوقومية، ستكون على موعد مع التماهي مع قسرية وأحادية مماثلة ضد ذلك الغير ولكن بمستوى يفوق ما لدى الأيديولوجية السابقة التي راهنت من قبل على طمس الهويات المخالفة. يأتي تفوق الأيديولوجية اللاحقة على سابقتها في الأحادية والتضييق على ما ينافسها من الآراء أو الأيديولوجيات المخالفة من منطلق التفافها ونكوصها وتخندقها على نفسها نتيجة لمحاولات نفيها ومن ثم فاللاشعور لدى أتباعها ومريديها سيكرس بالطبع قطعية الحق فيها من منطلق أنه لولا كمون ذلك الحق في مفاصلها وما تدعو إليه لم يكن ثمة حاجة لأولئك الأعداء لمحاربتها والتضييق عليها وإخلاء الساحة من تحتها وهنا ستتجلى فيها أبرز دعوات اللاشعور اتكاءً على تلك النتيجة التي وصلت إليها ممثلة بدعوة أهل ذلك المذهب أوالطائفة إلى أن يعضوا عليها بالنواجذ ويخافوا عليها أعظم مما يخافون منه على أنفسهم ومن يعولون، وبالتالي فمع أية فرصة قادمة لظهورها على الساحة ستبادرإلى فرض منطقها على الجميع من منطلقين رئيسيين تبرمجا في اللاشعور: أولهما: قطعية الحق الذي ترى أنه متضمَّن في مبادئها وما تدعو إليه حصراً نتيجة للتربية الطويلة على المقابلة بين النفي المستمر لها وتوافرها على قوة الحق وسند اليقين فيها والتي لولاها لما اضطر الخصم لمحاربتها. ثانيهما: إرادة الاستئثار بالساحة وإخلائها من المنافسين مثلما أُخليت الساحة منها من قبل المنافسين نتيجة لغلبة منطق الأخذ بالثأر والمعاملة بالمثل. منطق كهذا لا يعسرعلى الباحث المنصف أن يجد له نماذج شتى بواسطة سبر أغوار تاريخ الفرق والمذاهب والأيديولوجيات على مر التاريخ إلا ما كان منه على سبيل الاستثناء وهو ما لا يغير من القاعدة التي تبقى هي الأصل بحكم أن النادر لا حكم له، المعتزلة مثلاً رغم تراثهم العقلاني ورغم محاولاتهم وجهودهم المضنية لتأسيس نظام معرفي عربي يقوم على البرهان المنطقي القائم على المقدمات الضرورية العقلية والنتائج الحتمية المترتبة عليها في مقابل نظام معرفي (عرفاني غنوصي) أدى إلى تخشب بنية العقل العربي، إلا أن غلطتهم المميتة التي أدت في النهاية إلى اندراس تراثهم تجلت في تصديهم لمهمة نفي مخالفيهم والتضييق عليهم لحظة قفزهم على مركب السلطة ابتداءً من خلافة الخليفة العباسي المأمون مروراً بالواثق والمعتصم بعد ذلك، وتجلت أعنف وأسوأ صور آحاديتهم عندما حاولوا إجبار مخالفيهم على اعتناق ما يؤمنون به بقوة السلطان خاصة لجهة القول بخلق القرآن، وهي المسألة التي بنوا عليها مع مسائل أخرى نظرتهم تجاه الكون والإنسان والعالم أجمع، بحيث شملت أيديولوجية الجبر عندهم الاعتقالات والإعدامات لبعض مخالفيهم فيما بعد، وكان من أبرز الشخصيات الحنبلية (خصومهم الأساسيين) التي طالها الأذى الإمامان: أحمد بن حنبل مؤسس المذهب الحنبلي الذي اعتقل وعذب ثم أُفرج عنه في عهد الخليفة المتوكل على الله، وأحمد بن نصر الخزاعي الذي قتل فيما بعد اعتقاله وإيداعه السجن. لما دال أمر المعتزلة بقفز مناوئيهم على ظهر السلطة كممثلين لأيديولوجية الدولة الفكرية لم يزد أصحاب الأيديولوجية الجديدة على إخلاء الساحة من الفكر الاعتزالي ولم يسمحوا حتى لنخبه الكبار بممارسة تأملاتهم الفكرية العقلانية التي كانت ستكون سبباً في تأسيس العقل العربي على بنية راسخة من مكونات العقل الكوني اليوناني لولا أنها خالفت أهم مكونات هذا العقل الكوني ممثلة في التعددية الفكرية القائمة على الإيمان بحق المخالف بإبداء رأيه مهما كانت مباينته للسائد. تكرر خطأ المعتزلة مرة أخرى عندما آل أمر السلطة الفكرية إليهم في عهد الدولة السلجوقية وتحديداً في عهد الوزير أبي مضر منصور بن محمد الكندري الذي كان نفسه حنفياً معتزلياً، وكان استبدادهم موجهاً للأشاعرة هذه المرة فقد تعرضوا - أي الأشاعرة - كما يقول السبكي في كتابه (طبقات الشافعية) إلى (محنة طال شررها فملأ الآفاق وطال ضررها فشمل خراسان والشام والحجاز والعراق فاضطهدوا ومنعوا من التدريس والخطابة في الجوامع وتعرض زعماؤهم للاعتقال والتشريد) وعندما توفي الوزير أبو مضر هذا خلفه على رأس الوزارة السلجوقية (رئاسة الوزراء في المفهوم المعاصر) الوزير «نظام الملك» الذي كان أشعرياً فقرب علماء الأشاعرة وأمكنهم من مناصب الدولة الدينية والتعليمية فكان أن قاموا بالاضطهاد والاضطهاد المضاد - بإنهاء سيطرة المعتزلة دينياً وفكرياً والعمل على إخلاء الساحة منهم ومن تراثهم، وهو تصرف مبرر سوسيولوجياً باعتباره تنفيساً عن استبدادية سابقة كانت مسلطة على رقابهم، وكانت هذه الحملة المضادة من القوة بمكان بحيث انتهى أمر قيادة خطامها كما هو معروف لأبي حامد الغزالي الذي كثف هجومه على الفلسفة والتراث الاعتزالي العقلاني والذي أدى فيما بعد إلى ضربهما ضربة لم يعودا منها إلى مفاصل الثقافة العربية حتى اليوم. إذاً هكذا يكون الاستبداد بالرأي والأحادية الثقافية والانفراد بالساحة الفكرية، والذي لن يُنتج إلا استبداداً مضاداً وسيرتد أول ما يرتد على أصحابه عند أول فرصة تلوح لمخالفيهم طال الزمن أوقصر، إنه قانون صارم ومجرب في أمكنة وأزمنة مختلفة، والاوروبيون جربوه جيداً وخبروا نتائجه الفظيعة إبان محاولة الكنيسة الكاثوليكية محو التراثات والثقافات المخالفة، وسجلها في وأد المذهب البروتستانتي وأتباعه معروف ومشهور فقد أسالوا الأنهار من دمائهم ومزقوهم كل ممزق وحرقوا الأرض من تحت أقدامهم ولم يزد ذلك المذهب البروتستانتي إلا قوة وانتشاراً حيث تدين به الآن معظم سكان دول شمال أوروبا بعد أن ساد عصر التنويرالأوروبي الذي كبح جماح الكنيسة الكاثوليكية وأماط اللثام عن الأرضية التعددية التي لا تألو جهداً في تسوية الأرض وتمهيدها لكل الآراء والنظريات بحيث لا يبغي أحد على أحد وبهذه الصيرورة الفكرية بالذات نهضت أوروبا من تحت أنقاض الأحادية الكاثوليكية. [email protected]