على المستوى المعرفي والفكري، تعددت الرؤى الفكرية والصياغات الثقافية التي تتحدث عن العرب والمجتمعات العربية بوصفها أمة واحدة.. وتشكلت في سياق هذه الرؤى الفكرية والمنهجيات الثقافية، أنظمة سياسية عديدة، تتبنى الخيار القومي، وتدعو إلى الوحدة بكل صورها ومستوياتها بين جميع العرب.. ولا ضير معرفياً وتاريخياً من هذه النزعة القومية والعروبية، لأن الخصائص اللغوية والثقافية لجميع البلدان العربية متشابهة إن لم تكن متحدة.. لذلك فإن الخطاب الوحدوي والدعوة إلى التوحد السياسي والاجتماعي هما المعادل الموضوعي للوحدة اللغوية والمشترك التاريخي والثقافي.. إن وجود وقائع سيئة وسلبية في العلاقة بين أطراف أي مجتمع عربي، ينبغي أن يدفعنا إلى مراكمة الجهود في سبيل الوحدة والتوحيد، وليس الخضوع إلى متواليات تلك العلاقة السيئة.. فبدل أن نلعن ظلام الفرقة والخلاف والنزاع، تعالوا جميعا نشعل شمعة الوحدة والائتلاف والوئام فالعرب وفق المنظور الثقافي واللغوي، يشكلون أمة واحدة وبيئة ثقافية واحدة، وإن تعددت أنظمتهم السياسية وتباينت قناعاتهم لذاتهم الراهنة أو خياراتها السياسية والفكرية والمعرفية.. وستبقى هذه الحقيقة راسخة في الوجدان الروحي والثقافي لكل عربي سواء أكان مشرقيا أم مغربيا.. فوجدان الجميع يتوق إلى الوحدة ويتطلع إليها بوصفها أحد الآمال التاريخية لجميع العرب.. ولكن وإزاء هذه الحقيقة الراسخة، ومن جراء عوامل التباين السياسي وما يقوده إلى تباين في القناعات والأولويات والالتزامات القومية، استوطنت في المجتمعات العربية مجموعة من الأمراض والآفات والتي لا تنسجم وهذه الحقيقة الراسخة في وجدان الجميع.. ولعل من أبرز هذه الأمراض والآفات أن مجتمعاتنا العربية (بتفاوت بطبيعة الحال) ليست مجتمعات استيعابية واندماجية، وإنما هي طاردة لبعض تعبيراتها ونابذة لبعض أعضاء جسمها.. ومع كل العوامل التاريخية المشتركة، إلا أنه لم يتحقق الاندماج الكامل بين أطراف وأطياف المجتمعات العربية.. ولو تأملنا في الخريطة الاجتماعية لكل المدن والحواضر العربية، لاكتشفنا أن أحياء هذه الحواضر موزعة بطريقة غير مفهومة على كل الأطياف والتعبيرات، وأن حركة التداخل الاجتماعي لا زالت محدودة، ولا زال الاندماج بين هذه المكونات شكليا وقشريا وبعيدا عن مقتضيات المشترك التاريخي والوطني ومتطلبات الوحدة الوطنية.. فمع أن غالبية المجتمعات العربية هم من العرب، إلا أن هذه العروبة بوصفها العنوان المشترك للأكثرية والأغلبية، لم تتمكن من دمج هؤلاء في بوتقة قومية أو وطنية واحدة.. فهؤلاء يتوزعون ويتباينون تحت عناوين دينية أو مذهبية أو عرقية أو مناطقية.. فإذا اتحدت غالبية المجتمعات العربية في القومية أو الدين، فهم يتوزعون تحت عناوين فرعية عديدة، وإن اتحدوا تحت يافطة عنوان فرعي، فهم يتفارقون بعنوان فرعي آخر.. دون أن تكون هناك جهود حقيقية أو مشروعات متكاملة لتعزيز خيار الاندماج في هذه المجتمعات العربية.. لذلك يصح القول إنه في كل مجتمع عربي هناك مجتمعات وأسقف متعددة وإن هذه الأسقف تمارس دورها في توزيع هذه المجتمعات أفقيا وعموديا.. وفي جميع اللحظات التاريخية الصعبة، التي واجهتها هذه المجتمعات، تبرز هذه الإشكالية وتمارس دورها التمزيقي في جسم الأمة.. فجميع الكتل الاجتماعية في الدائرة العربية، تمارس بشكل أو بآخر دورا تمزيقيا ويتلاشى دورها التوحيدي.. فهي طاقة مجتمعية تؤبد التباينات وتسوغها تاريخيا ومعرفيا، وتتراجع في هذا السياق كل طاقتها الوحدوية والاستيعابية.. لذلك فإننا نجد في المجتمعات العربية المعاصرة، العديد من الكتل الاجتماعية، التي تشكل طاقة ضد الاندماج، وتغيب الجماعات الاجتماعية الفاعلة التي تدفع باتجاه الوحدة والتوحيد وتجاوز الخلافات والتباينات ومنع تأثيرها السلبي في مسيرة المجتمع.. ولا ريب أنه حينما تنشط القوى التي تحارب الاندماج والوحدة على قاعدة احترام التعدد والتنوع، فإن أزمات الاجتماع العربي المعاصر، ستزداد خطورة وكارثية على الاستقرار السياسي والاجتماعي.. والخطير في الأمر أنه حتى الخطابات الدينية السائدة، أضحت بطريقة أو بأخرى مسوغة للتباينات العربية الداخلية، ومغذية لبعض تباينات الاجتماع العربي المعاصر.. ومن المؤكد أن مفاعيل الخطابات الدينية التمزيقية والتحريضية سيئة وكارثية على الجميع.. فبدل أن تكون هذه الخطابات إضافة نوعية في مسيرة الوئام والتوحيد، أصبحت تمارس دور إعطاء الغطاء والمبرر الديني لحالات التشظي التي تعيشها المجتمعات العربية.. ومن جراء هذه الحالة، يعيش الاجتماع العربي المعاصر، العديد من المخاطر والتحديات، لا يمكن مواجهتها، إلا بإعادة النظر في طبيعة العلاقة بين مكونات هذا الاجتماع، وسبل تجاوز مخاطر التشظي الأفقي والعمودي.. وفي هذا الإطار نود إبراز النقاط التالية : 1-إن واقع الاجتماع العربي المعاصر المذكور أعلاه، ليس قدرا مقدرا، وإنما هو نتاج خيارات سياسية وثقافية.. وإذا أردنا تجاوز هذه الأمراض والآفات، فنحن بحاجة إلى سياسات وخيارات ثقافية جديدة، تعمل على تجسير الفجوات بين جميع الأطياف والتعبيرات، وتبني كتلة اجتماعية واسعة، تعمل من أجل إنجاز مشروع الاندماج الاجتماعي والوطني في كل بلد عربي.. 2-إن وجود وقائع سيئة وسلبية في العلاقة بين أطراف أي مجتمع عربي، ينبغي أن يدفعنا إلى مراكمة الجهود في سبيل الوحدة والتوحيد، وليس الخضوع إلى متواليات تلك العلاقة السيئة.. فبدل أن نلعن ظلام الفرقة والخلاف والنزاع، تعالوا جميعا نشعل شمعة الوحدة والائتلاف والوئام.. فالجميع يمتلك صورا أو ممارسات أو حقائق سلبية من الآخر، وإذا خضعنا جميعا لهذه المتواليات، سندفع الأوضاع العربية للمزيد من التأزم.. فالمطلوب أن لا نكون صدى للتشنجات المتنقلة، وإنما نمارس دورنا الإيجابي في وأد الفتن وبناء حقائق الائتلاف والوحدة .. 3-في كل الأحوال والظروف، تتأكد الحاجة إلى الحفر المعرفي العميق في التراث القامع للمختلف والنابذ للمغاير، والمسوغ لممارسة العنف المعنوي والمادي تجاه المختلف.. فلا بناء حقيقيا وعميقا للعلاقات الإيجابية بين مختلف الأطراف والأطياف، إلا بتنقية التراث الذي يحتضن صورا عديدة ومقولات متعددة لنبذ هذا الطرف أو ذاك.. لأن هذا التراث يشكل المخزون العميق، الذي يستمد منه كل المختلفين صور التسقيط والنبذ والتحقير، ولا وقف لزحف حروب الأوراق الصفراء، إلا بتفكيك لكل الصور النمطية التي يحملها كل طرف عن الآخر.. وجماع القول : إن جميع المجتمعات العربية المعاصرة، تحتاج إلى جهود عملاقة ومتواصلة، لتعميق خيار الاستيعاب لكل مكوناتها وتعبيراتها، وبدون ذلك ستبقى هذا المجتمعات عرضة لجميع المناكفات والإحن التي تزعزع استقرارها وتدخلها في أتون النزاعات العبثية..