إذا ما شاهدنا ما يجري في مصر اليوم فسوف نكتشف وبسرعة أن القواعد السياسية التي وقف عليها الإخوان بعد الخامس والعشرين من شهر يناير بدأت بالانهيار فأنوار السلطة التي حاول الإخوان ممثلين في حزب الحرية والعدالة الإمساك بها يبدو أنها تنطفئ تدريجيا مع تزايد الانكشاف لمشروع الإخوان السياسي وممثلها حزب الحرية والعدالة والذي يؤمن بفكر جماعة الإخوان ويتبنى رؤيتها السياسية. أزمة مصر الإخوان اليوم هي أزمة نفوذ وليست أزمة إصلاح سياسي حيث عجز حزب الحرية والعدالة عن تنفيذ ما وعد به من إصلاح، فالخطأ الاستراتيجي لحزب العدالة يكمن في تغليب فلسفة النفوذ منذ البداية على فلسفة الإصلاح لذلك فشل مشروع الإخوان في تمرير مبادراته في مقابل ترسيخ السيطرة سواء عبر الإعلان الدستوري أو عبر التمرير الفائق السرعة لمشروع الدستور غير الناضج ومغازلة أجهزة الأمن من الجيش والشرطة على اعتبار أن ما يحدث من إخفاقات اقتصادية وسياسية عقب الثورة إنما هو نتيجة حتمية لمؤامرة تقاد ضد الإخوان. الصراع السياسي في دولة كبرى مثل مصر مع اقتصاد ضعيف على حافة الانهيار سوف يمنح العالم العربي مزيدا من التجارب الحية حول قدرة الإسلام السياسي على القيام بدور إيجابي لخدمة الشعوب الثائرة، الأمل في نجاة مصر سياسيا من أزمة الإخوان يتضاءل تدريجيا مع توسع محتمل للمعارضة وخاصة تلك المعارضة التي تتمسك بأهداف الثورة كما تم رسمها في البداية. هل تسير مصر نحو المجهول..؟ ولماذا..؟ التحليل المنطقي لمشكلات مصر السياسية بعد سيطرة الإخوان يتطلب فحصا دقيقا لأهداف الثورة ولابد من الاعتراف أن حزب الحرية والعدالة لم يكن له هدف سوى السلطة وهذا يفسر تتابع القرارات السياسية الداعية إلى الإمساك بقواعد السيطرة الأمنية على الأرض بينما الطريق المعتاد بعد كل ثورة في العالم هو طريق الإصلاح. بعد صعود الإسلام السياسي في دول الثورات العربية اعتقد منظّرو الإسلام السياسي أن مشروعهم جاهز للتطبيق ولذلك عادوا إلى كتب التنظير حول الخلافة ولكنهم عندما أرادو أن يحاولوا تطبيقها لم يستطيعوا بل لم يجدوا مشروعا سياسيا مكتملا فكل ما وجدوه قصصا تاريخية لمواقف شخصية في معظمها تؤطرها المثالية وقدسية الرواية والراوي والمروية عنه. إن فشل المشروع الخاص بالإسلام السياسي مبني على قضيتين مهمتين أولا مثالية فكرة الخلافة المجلوبة من التاريخ دون فحص حيث يستحيل انتزاع فكرة الخلافة من سياقها التاريخي الذي ولدت فيه ليتم نقلها إلى مشروع سياسي يمكن تطبيقه في القرن الحادي والعشرين، فكرة الخلافة كنموذج موحد سار عليه الخلفاء الأربعة غير موجودة تاريخيا فالمصطلح (الخلافة) لا يعني بالضرورة مشروعا سياسيا، بقدر ما هو تراتبية فردية لفئات ذات دور بارز في حياة المسلمين الأوائل من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام وذلك للتفاوت الكبير في منهجية القيادة السياسية التي سادت فترة الخلفاء الأربعة. إذن الخطأ الأساسي الذي صاحب الثورات التي ركبها الإسلام السياسي هو تقديم مصطلح (الخلافة) خاليا في مضمونه من مشروع سياسي وهذا شكّل نوعاً من التضليل الشعبي لأن هذا المصطلح قُدم بقدسية كبيرة اصطنعت له عبر تعزيز المصطلح بوسائل دعم تاريخية ليس لها علاقة مباشرة فيه، ويشكل مصطلح الخلافة الوجه الآخر لفكرة تطبيق الشريعة التي توارت عن الأنظار في السياق الإعلامي التابع لمشروع الإسلام السياسي. الشعوب الإسلامية اليوم وبعد تجربة قصيرة بمؤشرات سلبية للإسلام السياسي في ثلاث دول عربية يعيد طرح الأسئلة التاريخية حول إمكانية نجاح المشروع الإسلامي سياسيا بتلك الطريقة التي طرحها رواد الإسلام السياسي.. إن القصور في فهم مدلولات التاريخ جعل التصورات العقلية لمشروع الخلافة مبسطا وكأنه مشروع لفظي قادر على إدارة الواقع السياسي لمجرد جعل مصطلح (الخلافة) هو عنوان الحياة السياسية. لقد كشفت سيطرة الإسلام السياسي على واقع الحياة عن قصور كبير في فهم التطبيقات والعبادات داخل منظومة الخلافة ففقد النظام الاجتماعي كيانه تحت رغبة ذاتية من الأفراد في تطبيق المفاهيم والعبادات وفق رؤية مستقلة لكل فرد، بل لقد تعدى ذلك إلى لجوء الأفراد في مجتمعات دول الثورات العربية إلى ممارسة السلطة الفورية للمخالفات الدينية عبر فرض عقوبات شرعية دون اللجوء إلى التنظيمات والقوانين. إن فكرة الخلافة مقرونة بالعواطف الدينية الجياشة سهلت مرور الإسلام السياسي من بين صفوف الثائرين ولكن الخوف الحقيقي الذي سوف تواجهه المجتمعات الإسلامية اليوم هو آلية الاعتراف بالفشل التاريخي لمشروع الإسلام السياسي بالإضافة إلى صعوبة وضع مشروع الإسلام السياسي أمام منصة المحاكمة التاريخية بهدف معرفة الحقيقة حول إمكانية مشروع الخلافة وقدرته على إدارة المجتمعات. إن ضبابية كبرى في التاريخ وتجاوز مقصود خوفاً من الفتنة وتفادياً للحرج وبعداً عن الموضوعية في مناقشة الأحداث والوقائع ساهم في عدم اكتمال الصورة حول حقائق سياسية كبرى ساهمت في تغيير الصورة التاريخية للإنسان المسلم. وبالرغم من السلبيات الكثيرة التي سوف تخلفها الثورات العربية إلا انه يجب الاعتراف بأن العالم الإسلامي يستعد لمرحلة انتقالية جديدة تعتمد على تقييم التجارب السياسية التي مر بها العالم الإسلامي، فمع اكتمال مرور العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين تكون معظم الدول العربية قد مرت بتجارب يسارية ويمينية وقومية وبعثية..الخ من تلك التجارب السياسية لذلك سوف لن تسمح تلك الشعوب بتكرار ذات التجارب ما قد يوحي بولادة سياسية شعبية جديدة لا تقيد الفرد بقيود العاطفة العقدية، ولا تطلق له العنان تحت منهج إصلاح الواقع. الشعوب العربية عليها أن تكون قادرة على الرد التاريخي عبر طرح الأسئلة عن كيفية المشروعات التي يرغب الإسلام السياسي تنفيذها كما عليها أن تدرك أن ممتهني الدعوة وممارسي العمل الديني تحت غطاء سياسي لايمكن أن يصلحوا في المجال السياسي..