لم تستطع الثورات العربية التي حدثت خلال السنوات الثلاث الماضية أن تكشف عن وجه إيجابي يمكن البناء عليه سياسيا واجتماعيا بل تحولت كل تفاصيلها إلى أزمة إنسانية وسياسية فلم تتكون لديها القدرة للاستجابة للشروط التاريخية للثورات السياسية، ولم تستطع الجماهير المقهورة والمضطهدة أن تمارس تجربة الحرية الكاملة فهذه الثورات صناعة جماهيرية ولم تكن صناعة سياسية، وهنا يكمن الفرق في فهم مدلول الثورات العربية. تجربة الثورات العربية لم تبن على التحول نحو المستقبل وتغيير مقومات الحاضر والماضي لجلب المستقبل فإحدى أهم الأزمات في الثورات العربية كونها جاءت بمشروعات سياسية بعضها تم بناؤه حتى قبل الأنظمة التي تمت الإطاحة بها مثل جماعة الإخوان، وهنا نستطيع أن نكتشف أن المشروعات السياسية البديلة التي قدمت بعد الثورات العربية لم تكن سوى مشروعات من الماضي مثل مشروع حزب النهضة في تونس، أو مشروع الإخوان في مصر. الثورات العربية لايمكن أن نقول إنها تعبّر عن نضج سياسي وتطلب التحول من مرحلة إلى أخرى، فالحقيقة أن ما يجرى هو عملية تدوير سياسي وخاصة أن مشروعات الإسلام السياسي التي جلبت من التاريخ ليست سوى بديل محتمل ودائم للأنظمة القائمة ومنذ زمن بعيد، لذلك ليس هناك شك بأن التصفية للمشروعات السياسية سوف تكون عنوان المرحلة القادمة. لم يتوفر بعد السبب التاريخي للثورات الحقيقية وهذا ليس "تشاؤم العقل في مقابل تفاؤل الإرادة" كما يقول احد علماء السياسة، فالصورة الجماهيرية للثوار تعبر بشكل دقيق عن حالة إحباط منتجة وليست حالة إحباط مفتعلة أو عكسية، فالجماهير العربية في دول الثورات بمعنى دقيق يمكن القول بأن الجماهير التي ثارت في الميادين والطرقات كانت تبحث عن شيء لم تستطع أن تعبر عنه بشكل سياسي. الحقيقة لم تكن هناك مطالب ديمقراطية أو مشروعات سياسية مطروحة، فكل ما أنتجته الثورات العربية هو شعارات "الرحيل ولكن بلا بديل" ففي تونس ومصر على سبيل المثال يتدخل الجيش لفض الأمن وكأن الثورة عمل جنائي وليست عملا سياسيا يتطلب دعم الجيش، بينما انتظرت تلك الجيوش بديلا تاريخيا جاهزا وليس بديلا مستقبليا ثائرا لقيادة تلك الدول. بطرق سياسية أغلقت أبواب المنطق السياسي البائس في تلك الدول وكل أسئلة الحوار الفعال فلماذا يتقدم الإسلام السياسي بمشروع تاريخي مرفوض..؟ فتأتي الإجابة بأن الديمقراطية قواعد وهي لعبة الأغلبية لذلك ينتصر العدد دائما. إن صناعة الأغلبية الجماهيرية في دول يمثل فيها الجهل نسبة كبيرة هو أسهل صناعة يمكن أن يقوم بها أي مشروع سياسي؛ لهذا السبب يجب أن نتذكر أن الغش في الانتخابات في الزمن الماضي ليس بإضافة الأرقام بل هو باستخدام الجهال سياسيا فالجهل لا يصنع الاستقلال إنما هو مبني على التبعية فالجاهل فاقد البصر الروحي والفكري قبل كل شيء. لقد تم الترويج وبشكل كبير بأن متطلبات الديمقراطية هي مجرد رقم يتفوق فيه الأكثر على الأقل ولكن دون تحديد حول حقيقة محتوى هذا الرقم سياسيا.. لقد تم الاعتماد على الرقم الديمقراطي وليس على الفكرة الديمقراطية لجعل الشعوب العربية غير قادرة على تحديد المعنى الحقيق لكي يكون الإنسان ديمقراطيا وليس السياسي. إن تقدم تيارات الإسلام السياسي أو حتى تقدم تلك التي تحاول أن تعارضها لم ولن يكون شكلا ديمقراطيا يمكن البناء عليه للمشروع الديمقراطي الحقيقي فثورة المشروعات الديمقراطية الحقيقية هي بناء اجتماعي قبل أن تكون تحولا سياسيا، فعلى سبيل المثال تشكل التجربة البريطانية والثورة الفرنسية احد أهم المصادر التاريخية لفهم مدلول الثورة المنتمية إلى طبقة التغيير وليس إلى ظاهرة تبادل السلطة. إن أهم قيمة للفرد في الديمقراطية هي الاستقلالية في الفكر والاتجاه، وليست الرقم كما تكتظ بها خطاباتنا السياسية في دول الثورات العربية، كما أن أهم الثغرات في الديمقراطية المنشودة في عالمنا العربي هي الاعتقاد بأن الرقم والأغلبية والصوت هي جوهر الديمقراطية بينما الحقيقة أن جوهر الديمقراطية هو قيمة الفرد الفكرية والثقافية وليس قيمته الرقمية، لهذا السبب لن تنجح الديمقراطية في العالم العربي ليس لكونها غير قادرة على النمو والاستزراع في هذا العالم العربي ولكن لأن الفرد وهو الأرض الحقيقية التي تزرع فيها الديمقراطية غير صالح للزراعة. الفرد العربي أرضه قاحلة من التعليم مليئة بالجهل، مشحونة بالتبعية، مقيدة بالترهيب فاقدة لقيمة الحياة، أمطارها الفكرية تلتهب بكم من العداءات الميتافيزيقية للحياة وللحقيقة والعقلانية. من المشاهدات الحية التي نستطيع أن نبرهن فيها على غياب المشروع السياسي الديمقراطي في العالم العربي هو تحول المنتج الديمقراطي كما هو متوقع إلى منتج عاطفي يستهلك طاقة الفرد نحو الخيارات التراثية وتاريخ الجماعات الإسلامية والأحزاب السياسية التي نشأت على ضفاف نهر الاستعمار وسقوط الدولة العثمانية والقوميات العربية والمشروعات الاشتراكية واليسارية. إن منتج الثورات العربية سوف يفاجئنا خلال السنوات القادمة بالكثير من المعايير المتضادة وخاصة إذا استطاعت جماعات الإسلام السياسي أن تصمد عبر ترسيخ الفكرة المطلقة للصحيح والخطأ من خلال فرضها على الشعوب على اعتبار أن المسار الذي تسلكه تلك الجماعات سياسياً هو مسار مقدس وهنا سوف نجد أنفسنا أمام أزمة "تسييس المقدس وتقديس المسيّس". النتائج مريبة حول ديمقراطية العالم العربي التي تبدأ مشوارها بالاغتيالات أو مصادرة الآراء المعارضة وهذا ما سوف يجعل المشروع الديمقراطي مرفوضا.. ومن التنبؤات القادمة لمشروع الثورات العربية أن تتضاعف مستويات الدكتاتوريات السياسية ليس بسبب ثوري ولكن لأن تلك المشروعات وخاصة تلك المعتمدة على التراث والمبنية على الإسلام السياسي ستكون أكثر عنفاً في فرض سيطرتها باسم العقائد والاتجاهات الفكرية التي تتبنى التاريخ بطرق ليس للشعوب خيار في رفضها نقلا عن الرياض