لو عدنا إلى الوراء نصف قرن من الزمان فإننا سنجد أعمالا ومواد إعلامية وبرامج إذاعية ثقافية عديدة متميزة تصنف في القائمة الداعمة للثقافة عموما والاجتماعية على وجه الخصوص، استطاعت المحافظة على كثير من المكتسبات الثقافية و التراث مع ضبط مسيرة الوعي الأسري والتاريخي والموروث الشعبي. هذه الأعمال كثيرة ولكن نقتصر على عملين متميزين بارزين لا أشك في أنها محفورة في ذاكرة العديد منا، وهذه الأعمال تبنت دعم الفضائل و الأدب والخلق الحسن والسمت و غرس القيم والمحافظة على الخصال الطيبة، وتصدرت الأعمال التي ساهمت في حل كثير من المشكلات الأسرية. وعندما نشيد بعمل فني أو برنامج إذاعي أو تلفزيوني فإنما هي إشادة من زاوية الانتفاع به وانتفاء السلبيات منه، بغض النظر عن فنيات تنفيذ العمل نفسه فيما لا يخص مجال الطرح هنا، فالذي نقدره من أي عمل هو مدى مساهمته في بناء المجتمع وحفظه وإضافة النافع له ومعالجة مشكلاته. كما أن معيار الإيجابية والسلبية هو توافقه مع المبادئ والمثل والخصال الحميدة ودعمه لها، وسلامته من الضرر وخلوه من الهدم لقيم المجتمع وعاداته وتقاليده الطيبة أو تصادمه معها لأن هناك في الواقع أعمالا كثيرة ذات أهداف قوية وقيمة بذل فيها جهد ومال ووقت ولكنها لا تصل إلى أهدافها الجيدة إلا بعد أن تهدم الكثير في طريقها وتتلف العديد من القيم، وبالتالي لا تكون مرحبا بها ولا يكون طرحها إضافة إيجابية للمجتمع حتى ولو نالها تلميع إعلامي أو تحققت لها شهرة عالمية أو تحققت منها أهداف نافعة مادامت قد هدمت الكثير في طريقها ولم تحسن البناء، والعكس فهناك أعمال بسيطة وتلقائية ونفعها كثير وفوائدها جمة. محمد بن شلاح من الأمثلة على البرامج ذات الشهرة و التي أدت دورا كبيرا في مجال تثقيف المجتمع والمحافظة على الكم الكبير من المكارم والأخلاق الفاضلة والتمسك بالعادات الحسنة وحل كثير من المشكلات: برنامج بدأ إذاعياً تحت مسمى برنامج البادية، وكذلك برامج أخرى أسهم بها الممثل المعروف: عبدالعزيز الهزاع، رغم بساطتها وقلة تكلفتها وعفويتها وقربها من المتلقي. ونأخذ أولا برنامج البادية: فهو في الواقع نابع من صميم المجتمع ثقافة وتراثا ومفاهيم ولغة وشخصية فهو وطني محلي 100% فمضامينه منا ولنا، وتفاصيله مراعية لرغبة المتلقي المحلي، وهو موجه له وليس إلى الخارج. أما المستهدف منه فهم كل شرائع المجتمع من الشباب فما فوق وبالأخص كبار السن والمهتمين بالشعر والقصة وأخبار المجالس وعلومها، فجاءت المادة مناسبة للمجتمع ملائمة له. إن برنامج البادية كونه بسيطاً في طرحه تلقائياً في أدائه خال من التعقيدات سهل في تقديمه محاكيا تماما للواقع، فقد وافق رغبة جماهيرية عريضة و تضمن سوالف و مرويات شفوية نفيسة، وقصائد ووصايا وحكم ثمينة، لا يمكن الحصول عليها بجهد فردي بل لا بد من فريق عمل وهذا الفريق هم أعضاء برنامج البادية . إنهم يقدمون مواد ومعلومات غير مطبوعة ولا منشورة في الواقع ولا يمكن الحصول عليها بسهولة، وإنما محفوظة في الصدور لدى المشاركين في البرنامج، ومن له اهتمام بجمع المعلومات التاريخية و الاجتماعية وغيرها شعرا ونثرا. أما ميزة البرنامج فهي مادته و عدم التكلف في إيصالها والتلقائية والبساطة في أدائها وتأديتها و ملاءمتها للمستهدفين ، وهي مقومات مهمة أضفت عليه سمات انسجام المتلقي معه وتقبله والتفاعل معه، حتى شد انتباه واهتمام متابعيه بحيث يتحلقون على المذياع قبل البرنامج ويعلقون على مواده بعد انتهائه ويعيدون تغذية المجتمع بها . استطاع البرنامج أن يفتح مجلسا افتراضيا في أغلب المنازل ويقدم هذا المجلس عادة في أوقات مناسبة يكون فيها المستمع متفرغا من عمله مساء بعد المغرب، وهو اختيار مدروس وقد أدى ثماره . إن ذاكرة الأمس حول الثقافة الشعبية وبرنامج البادية تضم مواد لا حصر لها لكنها تصنف في قوائم هي: الشعر والقصة والتسلية ومهارة الرواية والأداء، ومن الأسماء ما لا حصر لها أيضا ما بين قاص و شاعر ومعد للبرامج ومقدم ومشارك ومن الأمثلة نذكر منهم : رضيمان بن حسين الشمري و منديل الفهيد و ابراهيم اليوسف و محمد بن شلاح المطيري و سعد بن حريول ومحمد بن زبن والشاعر سويلم العلي وناصر بن زيد بن شنار والعشرات من أهل الحكمة والكلمة الطيبة وأول من اكتشف أهمية البرنامج وميز الغث والسمين فيما يقدم عبر الإذاعات هم كبار السن من آبائنا وأجدادنا وهم الجمهوره الأول الذين يعرفون كيفية الانتقاء. لقد اختاروا برنامج البادية كمصدر من مصادر المعرفة والتثقيف الملائمة لمستوى ثقافتهم والمتمشي مع عاداتهم وتقاليدهم، فكانوا يتحلقون حول المذياع وقت إذاعة البرنامج ويصغون للقصص ويستمعون للحكم والأمثال. وكان الشباب أيضا يستقون من الكبار الاسلوب نفسه فيلتفون حول الكبار وبالتالي تأثر الكثيرون ممن كانوا يستمعون لبرنامج البادية بما يقال عبره فظهر منهم المثقفون ثقافة الأصالة فكان منهم الرواة والشعراء وأهل الأدب والقصة، كما تأثر من البرنامج العديد من المستمعين الذين تقبلوا التوجيهات التي تقال عبره، فهو في وقته كان قناة تثقيفية أصيلة لها دورها الكبير في المحافظة على كرم الأخلاق والصدق والوفاء والتسامح والبر والصلة وكانت الدروس التي تقال عبر البرنامج واقعية مؤثرة، وفي الوقت نفسه منوعة تجمع بين القصة المؤلمة والمفرحة وبين أغراض الشعر بأنواعه ولا تتضمن الساقط من القول ولا الرديء من السلوك، ولا تقبل الهزل الضعيف ولا المزح الممجوج، ويترفع مقدمو ومشاركو البرامج المخصصة للبادية والتراث عن كل مشين، ومن هنا احتفظ البرنامج ومحتوياته وفقراته بخط الجودة بل والصعود به رغم طول مدته الزمنية التي تعد مقارنة بالبرامج الأخرى طويلة، كما ان الرقابة التي تهيمن على مثل هذه البرامج كانت ذاتية من قبل مقدمي البرامج أنفسهم ومن قبل المشاركين الذين يقدرون من تلقاء أنفسهم أصالة مجتمعهم وحاجته إلى بقاء الأصالة فيه دائمة. يقول أحد الشعراء ويعني برامج التراث والبادية : ترى البرنامج اللي طيب ما يذكر إلا الطيب وترى أهل البادية في باديتهم خير برهاني أنا في قولي أمدحهم ومدحي مقدي ومصيب يبثون الثقافة والعلوم الغالية للناس مجاني يقدم من يشارك كل جزلة ما يجيب العيب يراقب ما يقول ويازن الهرجة بميزاني وأما العمل الآخر الذي كان له تواجده المميز والمتميز في فترة البدايات الإعلامية وحداثة الإذاعة والتفاعل معها والذي وافق انتظار ملء فراغ في جانب الإعلام الشعبي الاجتماعي والحاجة إلى شد انتباه المستمع وفائدته فقام بملء ذلك الفراغ فعلا وأدى دوره بإيجابية ، فهو ما قام به المبدع عبد العزيز الهزاع وشهرته أكبر من أن يتم التعريف به . قام بنشاطات توافقت مع رغبة المتلقي وتطلعاته ولامست حاجته بشيء من التشويق والفوائد الكثيرة، ذلك لاستقاء المادة من واقع المجتمع نفسه ومن حياته اليومية ، بحيث تعالج في غالبيتها مشكلات فعلية في الأسرة والمجتمع وبين الشباب والأصحاب، وكانت شاملة لكل ما يهم المجتمع كالعلاقات والاقتصاد والمعاناة بشتى صورها وأصنافها، مع التسلية والتشويق للمتلقي بحيث يقوم بالمتابعة المستمرة وانتظار البرنامج الذي يعده ويقدمه ويقوم بكل أدواره شخص واحد هو عبد العزيز الهزاع، الذي هو من المجتمع ويحس به ويعرف كل تفاصيله، وقد أعجب به شريحة كبيرة من المجتمع وما هو إلا توفيق من الله لهذا الرجل الخلوق المتواضع، حيث قدم بدون تكلف موهبته الممزوجة بحرصه وإحساسه بما حوله ورغبته في أن يفيد الناس منطلقا من رصيد ثقافي شخصي وتجارب ومن بيئته الاجتماعية المحافظة التي تربى فيها، وأحب أن يحميها من مؤثرات قد تطرأ عليها بسبب المستجدات، وأيضا رغبة في الارتقاء بها من خلال معالجة كثير من المشكلات الاجتماعية والتركيز على الفضائل من حب الإخاء و الجوار وتآلف أفراد الأسرة وتحصين الشباب من مستجدات لا تتناسب والفضائل والقيم ، مما جعل أعماله تقابل بالقبول والإشادة. فمثلا منولوج المعاش، الذي يحكي عن الراتب وصرفه، فقد وصل للمتلقي بما يتناسب وثقافته و بشكل سهل يوصل الرسالة بشيء من المرح، وفي الوقت نفسه لهذه الرسالة تأثيرها الفعلي والقبول المؤدي إلى التغيير الايجابي.يقول المنولوج : أمس استلمنا المعاش وأصبح من حظ القماش صرفناه وما بقا ش والله يعلم بالحالي وهو هنا يركز على الطرافة ولا يعرض التذمر أو يثير ولا يركز فيه على مسألة ضآلة الراتب فقط ولكنه يشير إلى ضرورة وجود الاقتصاد في الصرف وأيضا انتباه المرأة بالذات لمصاريفها التي ربما ذهبت في قماش وثياب عديدة لا ضرورة لها، و ايضا التنبيه للتخطيط وعمل ميزانية للأسرة، وهي كلها أفكار قل أن تطرق، وقل أن يناقشها المجتمع وأفراده لأنهم في مثل هذه الأمور يخشون الدخول في وصف البخل والتقتير ولم يكن من العرف وضع ميزانيات أسرية محددة ومعترف بها اجتماعيا، فكان لطرح الموضوع على شكل منولوج أثره في إمكانية تبادل الرؤى حول مثل تلك الموضوعات. وأيضا استطاع أن يحتل مكانة كبيرة لدى جماهير الإذاعة من خلال برنامج أم حديجان، والذي يقدم أضواء على أسرة مكونة من عدد من الأفراد، وأيضا أفراد آخرين من الجيران وزملاء العمل فقد برع جدا في اختيار النماذج لكي يطرح من خلاله حلولا لمشكلات يرى أنه من الضروري عدم السكوت عنها. ولا أشك و مثلي الكثيرون، في أن البرامج الشعبية والتراثية والاجتماعية سواء البادية أو غيرها الفردية والجماعية، بدأت رغم قلة الإمكانات، قوية واستمرت أصيلة تتكئ على مادة جيدة همها تقديم التميز من المواد والمضامين، ولا تزال من روافد الثقافة الاجتماعية التي تعطي المستمع كثيراً من الدروس المنتقاة والمستقاة من الحياة حاضرها وتاريخها وعرض حياة السابقين ومن جرب وعانى من الصعاب ومرت عليه الأيام حلوها والسعيدة منها وتعايش وفق مقدراته فما انجرف مع حلاوتها ولا استسلم لمرارتها ويبقى علينا أن نكون امتدادا فاعلا لتلك الإصالة وأن تكون المواد المقدمة بحجم التطلعات. لكي تبقى قوية مع امتداد الوقت، وأن لا تأخذنا تيارات الكسب السريع التي بدأت تطغى على العمل الإعلامي في العالم كله.