ليس بمستغرب أن يحافظ البرنامج الذي انتهج الأصالة من بدايته على تلك الأصالة فيما يطرح، وأعني برامج التراث وما يسمى سابقاً برنامج البادية، والتي لا تزال بعض المحطات الإذاعية والتلفزيونية تبثه بالاسم نفسه «برنامج البادية». هذا البرنامج الذي عرفه المستمعون ثم المشاهدون مع بداية تواجد المذياع بين الناس هنا، وكان من أول البرامج التي تبث أيضاً من الإذاعات الخليجية. ولإن البرنامج أخذ مادته من الأصالة التي انطلق منها المجتمع ويغذيه أيضاً أبناء البادية والمثقفون من المجتمع عموماً فقد حافظ طيلة الخمسين سنة الماضية على تلك الأصالة بشكل يؤكد قدرته على الاستمرارية في البقاء كقناة تثقيفية لها جمهورها العريض، خاصة وان الثقافة التي ينتهجها المشاركون فيه تتوافق مع المجتمع وتنبع منه، كما انها مادة تدعم التوجهات النبيلة فيه وتوصي بالمكارم والطيب من الخصال مثل الشهامة والشجاعة والكرم وحفظ الجوار والترفع عن الرزايا والدنايا من الأمور والبعد عن كل مشين أو معيب. ويستشهد المشاركون بحوادث ومعلومات وقصص من واقع حياتهم كما انهم يدعمون البرنامج بأشعار ذات مضامين تثقيفية تقوي بناء المجتمع وتحثه على التمسك بالفضائل. وأول من اكتشف أهمية البرنامج وميز الغث والسمين فيما يقدم عبر الإذاعات هم كبار السن من آبائنا وأجدادنا، الذين اختاروا برنامج البادية كمصدر من مصادر المعرفة والتثقيف الملائمة لمستوى ثقافتهم والمتمشي مع عاداتهم وتقاليدهم، فكانوا يتحلقون حول المذياع وقت إذاعة البرنامج ويصغون للقصص ويستمعون للحكم والأمثال وكان الشباب أيضا يستقون من الكبار الاسلوب نفسه فيلتفون حول الكبار وبالتالي تأثر الكثيرون ممن كانوا يستمعون لبرنامج البادية بما يقال عبره فظهر منهم المثقفون ثقافة الأصالة فكان منهم الرواة والشعراء وأهل الأدب والقصة، كما تأثر من البرنامج العديد من المستمعين الذين تقبلوا التوجيهات التي تقال عبره، فهو في وقته كان قناة تثقيفية أصيلة لها دورها الكبير في المحافظة على كرم الأخلاق والصدق والوفاء، وكانت الدروس التي تقال عبر البرنامج واقعية مؤثرة، وفي الوقت نفسه منوعة تجمع بين القصة المؤلمة والمفرحة وبين أغراض الشعر بأنواعه ولا تتضمن الساقط من القول ولا الرديء من السلوك، ولا تقبل الهزل الضعيف ولا المزح الممجوج، ويترفع مقدمو ومشاركو البرامج المخصصة للبادية والتراث عن كل مشين، ومن هنا احتفظ البرنامج ومحتوياته وفقراته بجودته عبر الزمن الذي انتقل عبره، ومن الملاحظ أيضاً احتفاظه بخط الجودة بل والصعود به رغم طول مدته الزمنية التي تعد مقارنة بالبرامج الأخرى طويلة، كما ان الرقابة التي تهيمن على مثل هذه البرامج كانت ذاتية من قبل مقدمي البرامج أنفسهم ومن قبل المشاركين الذين يقدرون من تلقاء أنفسهم أصالة مجتمعهم وحاجته إلى بقاء الأصالة فيه دائمة. يقول أحد الشعراء: ترى البرنامج اللي طيب ما يذكر إلا الطيب وترى أهل البادية في باديتهم خير برهاني أنا في قولي أمدحهم ومدحي مقدي ومصيب يبثون الثقافة والعلوم الغالية للناس مجاني يقدم من يشارك كل جزلة ما يجيب العيب يراقب ما يقول ويازن الهرجة بميزاني ولا أشك في أن برنامج البادية كان ولا يزال من روافد الثقافة الاجتماعية التي تعطي المستمع كثيراً من الدروس المستقاة من حياة من سبقنا ممن جرب وعانى من الصعاب ومرت عليه الأيام المرة فتعايش وفق مقدراته والحلوة فما انجرف مع حلاوتها.