لماذا سمحنا لكل شيء جميل في حياتنا كي يتبدل بسبب حفنة من «المتطرفين» الذين يريدون ان يشكلوا العالم حسب هواهم؟ فهؤلاء لايستطيعون تقبل الآخر مهما كان. لقد صنعوا لهم عالماً لايفقه إلا في صنع الحدود بين البشر (1) يبدو أن هامش الحركة في المدينة التي ترحب بالجميع بدأ يتقلص، فهل نستطيع ان نتخيل لندن دون امواج الحركة التي تعج بها شوارعها وهل نتصورها بلون أو عرق واحد؟ أنها مدينة تشع بالتاريخ الانساني المناضل من أجل الحرية، فهي معقل أول مؤسسة ديمقراطية معاصرة، فهل يمكن أن تلفظ هذه المدينة كل هذا التراث من الاختلاط الانساني الذي حققته خلال تاريخها؟ عندما سمعت عن انفجارات في وسط لندن، وأن بعضها كانت في القطارات الارضية وفي نقاط تعد من أكثر مناطق لندن ازدحاما، صرت اتخيل حالة اولئك الذين عاشوا حياتهم كلها يتصورون ان هذه المدينة هي بيتهم الكبير الذي يجمعهم بكل الناس من كل مكان، فهؤلاء لم يدر بخلدهم يوما أن فضاءات هذه المدينة المنفتحة يمكن ان تضيق بهم وأن تحد من حركتهم المنطلقة التي اتاحتها لندن لهم. انها مدينة الجميع، معرض لكل ثقافات البشر، لايشعر الانسان فيها بغربة رغم قسوتها «الرأسمالية». شعور بالاطمئنان والامان يجعل من لندن بيتاً إنسانياً كبيراً، ولا ادري كيف سيكون هذا البيت بعد هذه التفجيرات التي ليس لها معنى سوى الامعان في ايجاد حدود فاصلة بين البشر وخطوط حمراء بين الثقافات التي تسكن هذه المدينة. صرت اسأل نفسي هل يمكن ان تعرف هذه المدينة «الكراهية» وأن تتحول إلى ثكنات متناحرة؟ وأن يصبح فيها البشر الذين عاشوها بعمق رغم كل اطيافهم الإثنية والدينية، فرقاً وطوائف كما هو الأمر في مدن الشرق. لكني هززت رأسي رافضا كل هذه الهواجس السوداء وقلت «لا» انها سحابة وتعدي وتصريحات المسؤولين في المدينة اغلبها تدفع إلى المصالحة والعودة إلى حالة ماقبل التفجيرات. (2) سألت نفسي أكثر من مرة ومع كل حدث جديد، لماذا سمحنا لكل شيء جميل في حياتنا كي يتبدل بسبب حفنة من «المتطرفين» الذين يريدون ان يشكلوا العالم حسب هواهم؟ فهؤلاء لايستطيعون تقبل الآخر مهما كان. لقد صنعوا لهم عالماً لايفقه إلا في صنع الحدود بين البشر، ولايرى هناك امكانية في {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} ولايفقه في {وجادلهم بالتي هي احسن}. هؤلاء يحملون فكراً «انتقامياً»، فطالما الجنود الأمريكيون في العراق وطالما اسرائيل تقتل الفلسطينيين، فهذا يعطيهم الحق لقتل الابرياء في كل مكان طالما هذا يسيء للغرب. والحقيقة المفزعة أن هذا الاتجاه يلاقي قبولا وارتياحا بين عامة الناس في العالم العربي، انه شعور يحقق بعض التوازن لتجاوز الاحساس المر بالهزيمة الدائمة التي نعيشها، وإلا ماذا يعني ان يقوم البعض منا بقتل الابرياء، خصوصا في مدينة مثل لندن التي كانت من اشد الرافضين للحرب في العراق (رغم ان قيادتها السياسية حليفة رئيسة في الحرب)، وأن يجد البعض في نفسه بعض الارتياح لمثل هذه الأحداث. قلت ربما هي رغبة دفينة عند كثير منا ان يصيب القوم بعض ما اصابنا، وأن تتحول مدنهم إلى خرابات يملؤها الفزع كما هي مدننا. المشكلة التي أراها هنا هي ان من يقوم بمثل هذه الاعمال الإرهابية ومن يشعر بالراحة لمثل هذه الاعمال قد وصلوا لمرحلة اليأس من حالتنا العربية- الإسلامية ولم يعد عندهم امل في الاصلاح وصاروا يفكرون مثل «شمشون» الذي هدم المعبد عليه وعلى اعدائه. (3) هل نشعر فعلاً بكراهية للغرب وأن تعلقنا به هو لمجرد «المصلحة» فنحن بحاجة ماسة إليه، أم أن علاقتنا به هي علاقة تاريخية وأن هناك عوامل مشتركة وتاريخاً طويلاً من الصراع والمصالحة بيننا وبينه وأننا كنا شركاء في صنع هذه الحضارة الانسانية. انني اميل إلى ان فكرة الصراع بيننا وبين الغرب ستظل قائمة طالما نحن وهم موجودون ومتجاورون، لكني لا أرى ان يتحول الصراع إلى فعل اجرامي، فقد كان تاريخنا مليئاً بالصفح والتجاوز عن الاعداء الذين اساؤا إلينا، إنها رسالتنا في هذه الحياة، فديننا يدعو إلى التسامح لا الغدر وقتل الابرياء. وما حدث في لندن وما قد يحدث في غيرها هو نوع من الغدر الذي لايرضى به احد. فبدلا من العمل والاجتهاد وتطوير الذات للمنافسة وانتزاع الحقوق تحول بعضنا إلى مجموعة من الخفافيش التي لاتعمل ولاتنقض على فرائسها إلا في الظلام. فلندن التي تعكر صفو سمائها «الصيفي» تفاجأت بأسراب الخفاش فهي لم تمنعهم من الطيران فيها لكنها لم تتوقع ان يسيئوا إليها فطالما قدمت لهم يد العون واحتضنتهم عندما رفضهم الآخرون. لكنها حكاية المدن الكبيرة التي تعشق كل من يمر بها حتى اولئك الذين يكر هونها. (4) قلت في نفسي ما الفائدة التي يمكن ان يجنيها هؤلاء من تفجير قطارات وباصات آمنة، فلم اجد اي فائدة تذكر سوى العبث و«تفريغ» الاحساس بالنقص الذي يعيشه كثير من الشباب. وبعد الكشف عن خلية لندن وأن الفاعلين هم من الداخل، شعرت أن الاحساس بالنقص صار يمثل هوية المسلمين في الوقت الحالي، فنحن نعيش أزمة بالفعل وأن علينا ان نقف امام هذه الأزمة بحزم ونعمل كل مابوسعنا كي نتجاوزها وإلا ستكون نتائجها وخيمة علينا. لقد اصبح امراً مفروغاً منه أن كل جريمة «نكراء» تحدث في مكان عام يكون فاعلوها مسلمين، فأي ثقافة هذه التي تدفعنا للقتل، كيف اصبحنا بهذه القتامة والسواد. انني لا انكر اننا عشنا قرنين من الظلم «الأسود» فكل المذابح الكبرى التي مرت خلال العقود القليلة الماضية حدثت لمسلمين (مؤخراً كان هناك تظاهرة دولية بمناسبة مرور عشر سنوات على مذبحة سبرينتشا في البوسنة)، لكن هل هذا عذر كاف كي يتحول بعضنا الى مجموعة من القتلة؟ ولمن لأبرياء يتعاطف كثير منهم مع قضايانا. الأمر جد خطير فهو يحصرنا في مأزق انساني لا نستطيع ان نتجادل فيه مع الآخرين والأدهى من ذلك أنه يهزأ من قولنا دائماً أن ديننا يحرِّم قتل الابرياء بل يحرم قتل النفس البشرية الا بالحق، فكيف لهؤلاء ان يقتلوا الناس بدم بارد ويكونوا منا؟ هذا المأزق يضعفنا فلا احد ينكر اننا الآن اضعف من قبل عشر سنوات، فكل المكتسبات التي حصل عليها المسلمون في الغرب خلال السنوات الأخيرة تتعرض الآن لهزة كبيرة، هزة في الثقة وفي عدم رغبة الغرب في ان يعيش بينهم مسلمون يشعرون أنهم سيغدرون بهم يوماً ما. (5) اعود الى لندن، فأنا اشعر انها مدينة جريحة الآن، رغم أنني على قناعة ان المدن الكبيرة تستطيع «لعق» جراحها، إذ يبدو ان الحياة الطبيعية عادت لهذه المدينة بسرعة، رغم انني على يقين ان النار مازالت تحت الرماد وان احساس الخوف مستشر بين الناس، لكنها الحياة التي لابد ان تستمر. ويظهر لي ان هناك «آليات» تجعل من المدن تستعيد حضورها السابق، وهي آليات في مجملها مرتبطة بأسلوب العمل في المدينة. إذ يبدو ان اسلوب الانتاج في المدينة لا يستطيع ان يتوقف وان من يعمل فيها يجب ان يؤدوا اعمالهم، وان لا خيار آخر بالنسبة لهم إلا القيام بما كانوا يقومون به قبل التفجيرات. وفي اعتقادي ان المدن التي وصلت الى المقدرة على الاستمرار في الحياة بوتيرة عالية مهما حصل فيها وحولها من احداث هي تلك المدن التي تجمعت فيها الخبرة الانسانية الطويلة، فمن خلال التجارب طورت تلك المدن نوعاً من «مقاومة التوقف» الذي عادة تصاب به المدن الصغيرة أو تلك التي تفتقر لمثل هذه الخبرة. في لندن عادت الحياة لطبيعتها في اليوم التالي، ربما تغير شيء واحد هو ارتفاع درجة الاستعداد الأمني، وبالنسبة لزائر المدينة قد يتغير عليه أمر آخر هو انه قد يسأل عن وجهته وربما يسأله احدهم عن هويته، فهذه حالات كانت نادرة في لندن، إذ انني لا اذكر ابداً ان احدهم سألني عن هويتي أو استوقفني في اي مكان ليسألني اين سيكون اتجاهي، فقد كانت هذه المدينة فضاء واسعاً للحرية الشخصية طالما انها لا تتعارض مع حريات الآخرين. (6) ماذا لو تقلصت فضاءات الحرية في المدن الكبيرة وماذا لو صنع لنا «الارهاب» الدولي مدناً مقيدة ومحدودة؟ صرت افكر في هذه الاسئلة كوني مهتماً بالمدينة وبتحررها من كل القيود التي تجعل من سكانها يشعرون انهم في سجن كبير. وتذكرت مجموعة من الافلام السينمائية التي كانت تثير مثل هذه القيود «المدينية». فمثلاً فيلم «سنشورا» يصور مدينة وهمية محدودة رغم ان بطل الفلم منطلق داخل هذه المدينة التي لا يستطيع ان يعبر حدودها. لقد شعرت بأنفاسي تضيق وانا اشاهد هذا الفيلم فرغم ان المدينة كلها فضاء مفتوح لكن شعوري بأنه يمكن ان اعيش في مدينة لا استطيع الخروج منها جعلني اشعر بأنها سجن كبير وكان لدي الاستعداد ان افر منها مع اكتشافي أول باب أو منفذ. ويبدو لي ان تقلص الحريات داخل المدن الكبيرة سيجعل هذه المشاعر تتنامى، فالحياة الحضرية المفتوحة وفضاءات الحياة التي لا تحدها حدود هي سمات انسانية حاولت ان تستعيدها المدن الكبيرة بعد ان مرت بتجربة «الصناعة» التي تركت بعض البصمات السلبية على الحياة الحضرية فيها. ومؤخراً شاهدت فيلم «بلاك ريفر» أو النهر الأسود، وهو قريب من فكرة «سنشورا» إذ ان بطل الفيلم محاصر داخل مقاطعة النهر الأسود «تقنياً» وعبر الأقمار الصناعية فهو لا يستطيع الخروج من هذه المنطقة، وقد شعرت بنفس الاختناق إذ يبدو اننا لا نقدر حرية الحركة والانتقال التي نمارسها إلا بعد ان تقيد حركتنا. واذكر كذلك انني تحدثت في السابق عن فيلم اسمه «المدينة المعتمة» وفيه يعيش بطل الفيلم في مدينة افتراضية تتحول كل يوم وفيها بعض الصور التي يعرفها وعاشها في مدينته الحقيقية، لكنه يكتشف انه في ليل دائم وانه لم يرَ النور في هذه المدينة لأنها ببساطة مدينة فضائية ليست على الأرض وحدودها كلها وهمية. كل هذا القلق السينمائي نحو المدينة له ما يبرره، إذ يبدو ان الحرية الكبيرة التي تقدمها لنا مدننا لا تعوض بثمن وأن خسارة هذه الحرية هي خسارة انسانية كبيرة يجب ان نعمل جاهدين على أن لا يتحقق. (7) ما أراه يحدث حولنا يجعلني اشعر بقلق شديد على الحياة المدينية التي نعيشها، فهي موروث انساني يجب ان لا نفقده، ولا اتمنى بالطبع ان نعود للمدن ذات الاسوار التي تحد من وصول الاغراب والطامعين، فذلك عصر ولى ولا نتمنى ان يعود. على ان ما يحدث حولنا لا يبشر بالخير، فهو أمر سيجعل من المدن تلفظ زوارها وتحد من حركتهم داخلها، وربما ستفرض عليهم رقابة، فالاسوار والحصون ليست كلها من الحجر او الآجر، فقد ابتكر الانسان اسواراً تقنية اكثر حدة واشد تعقيداً للحرية، ويبدو لي ان المدن الكبيرة تتجه لعصر جديدة من «المدن المسورة» لكنها ستكون اسواراً تقنية من أجل حماية نفسها من اولئك الذين لا يقدِّرون نعمة الحرية. وآخر ما اتمناه ان مدينة مثل لندن التي كانت فضاءاتها تتسع للجميع ان تتقلص هذه الفضاءات حتى لا يبقى متسع لأحد.