اليتم والفقر من الأسباب الاجتماعية المؤثرة في حياة الإنسان، بما تولد من معاناة وما تشعل من طموح، وقد ينجرف بعضهم جراءها إلى مسارب العلل الاجتماعية، وأمامنا اليوم شاعر عاش طفولته يتيما، وشبابه وحيداً، لم يكن مؤنسا في معاناته غير الشعر، فكان من أخلص أصدقائه، توطدت بينهما صداقة سما - من خلالها - كل منهما بالآخر. النفس طير والمنايا محابيل والناس روّاي الحديث تحكي به وكان الشاعر محافظا على تقاليد الفحول من الشعراء وقيم المجتمع التي تغذي شعرهم بالأمثال والمثل الجميلة، إنه الشاعر بندر بن سرور العتيبي الذي سلبه اليتم وحياة البادية ارتياد مناهل التعليم ليبلغ أقصى مداها، وغذياه بالابداع الشعري الذي كثيرا ما يسلب الشاعر التفكير في بناء حياة غذاؤها المال ومركبها الأنانية والذاتية، ولكنه بلغ شأوا كبيراً من الشهرة والابداع، وقدرا زاخراً من محبيه ومحبي شعره. بندر بن سرور لم يجد في زمنه من يملأ أماسيه بالمحادثة المنشودة، مع أنه أدرك جزءاً كبيراً من حياة المنتديات التي ينشد، فهو ولد في عام 1360ه وكانت الحياة حافلة بذكريات الماضي التي عادة ما يتعلق بها مدركوها، وكانت أيضا مشغولة بالتفكير في المجهول القادم، حتى تبين ذلك في تغير وجه الحياة إلى نمط جديد. والليل حيث يأوي الخلي إلى مضجعه ومهجعه، ويبقي الشجي ساهراً يناجي النجوم، ويتجلد بقهوته وربابته وشعره، كان الشاعر فيه يشتاق إلى مسامر ونديم من نوعه، يطارحه الأحاديث وأخبار السابقين ويحاوره شعراً، فيجد المتعة وغذاء الفكر: الله من عينٍ إلى عسعس الليل عافت لذيذ النوم ما تهتني به يا وين ابا القى من يحب التعاليل يبدا بزين القول والاّ ابتدي به والباعث على ابداعه هذه الأبيات على ما يبدو تضجره من المجالس التي افتقدت الاحترام والوقار والارتفاع عن دنايا الأحاديث، يظهر ذلك النقد في قوله: خطو الولد يا مال قصف التماهيل يشرح عيوب الناس ما شاف عيبه يفرح إلى شاف المجالس هراميل ويكره إلى شاف المجال منيبة ما شوّقنّه طيبات التماثيل مع شايب قِدْ بيّن الوقت شيبه ما هو بشايب شيبنه غرابيل عيداً يقفّي به وعيداً يجيبه أنا الذي شفت الوزا يا اسماعيل طاوعت نفسي لَيْنْ شفت الغليبة نقد لاذع لحالة المجالس التي تجمع المحبين، فلا يتورعون عن ذكر عيوب غيرهم وتجاهل عيوبهم أنفسهم. هذا الزمن الطارئ في زمن الشاعر هو ما أدى إلى ظهور الشيب في محيا الشباب المتمسك بالقيم لإنكارهم ما طرأ في علاقات الناس من تفكك وسعي وراء تحصيل ما هو سريع الزوال. ويعني بالعيد مرور العام بعد العام بما لا يستجيب لتطلعات هذا الشاب الذي أدركه المشيب من غربته في زمن متجدد، فالغربة ليست الاغتراب عن الوطن فحسب، وإنما هي أيضاً غربة الإنسان بين من يعيش واياهم على أرض واحدة وتحت سماء واحدة، وجاءت الغربة هنا من مجافاة قيم وتقاليد لا يعتنقها هذا المتمسك بقديمه. ثم يختتم الشاعر أبياته ببيت ملئ حكمة: النفس طير والمنايا محابيل والناس روّاي الحديث تحكي به نعم، إننا لا ندري ماذا تخبئ لنا الأيام القادمة، وربما انتقد بعضهم تكرار القافية «به»، والشعر النبطي كثير ما يعتبر الجملة أو الكلمة المنتهية بمثل ما انتهت به أبيات شاعرنا هي القافية، وفق ما يكتبونها «تهتنيبه» «ابتديبه» «يجيبه». ولنتأمل رائعة أخرى لشاعرنا يعالج فيها قضايا زمنه وأحوال مجتمعه بدقة: الله من عينٍ تزايد صلفها بين كماها بالعروق الصخيفة كم واحد له حاجة ما صرفها يصد عن صرافها لا يضيفه يخاف لا يقضب نديماً طرفها قلبه صدا واطراف جسمه نظيفة والله خلق بيدا الذلول وعسفها للي يبا المنهاج مثل القطيفة لا أجد في هذه الأبيات ما يستدعي الشروح لوضوحها وادراكنا لما يهدف إليه الشاعر مما ألم بالناس من تغير وميل إلى المظاهر، ثم يذكرنا بقول الشاعر: لولا بنيات كزغب العطا كررن من بعض إلى بعض لكان لي متسع وافر في الأرض ذات الطول والعرض وقول الوقداني: وان جفتك الدار أو مال الزمان لا تعيش بدار ذل أو هوان لو يظلَّي نبتها من زعفران صاحب الآداب واجعلها دليل نعود إلى شاعرنا بندر سرور وأبياته: والفضل للي مدها ما قصفها وانهج من الدار المحل للمريفة والضحك يا اللي غافل ما عرفها شيبا تشيب ما يحول رديفه رديفها يركض ويركز هدفها وقت يقص العظم من حد سيفه وان جت بك الدنيا وجابك صدفها لا تعتزى باهل النفوس الضعيفة وانصحك نفسك لا تسقّط شرفها ترى بعض بيض المجالس مجيفة هذه الدنيا التي ملها الشاعر وتبرم من مظاهرها عجلت بشيبه لدواعي ألمه وغادر رحابها التي اعتقد أن في سعتها ملاذاً للهاربين من قيودها وضنكها فقد توفي عن عمر لم يتجاوز الخامسة والأربعين تقريبا. وعن جلده وتصبره على مظاهر الحياة يقول: شيئ بقلبي واهجه مستمرِّ لولا ازرق الدخان يطفي لهيبه سلط على الدخان لوهو مضِرِّ له حزّةٍ عند احتكام المصيبة يجد الشاعر في التدخين مهرباً من المشاكل، وهو يعلم ضرره، ولكنه وسيلة لتفتيت الوقت عندما يضيق به الإنسان ويبحث عن مخرج. ثم يصرح بأنه لا يظهر ما يواجه من مشاكل، وما يعاني من آلام: وأنا الذي ما ابدي على الناس سري من خوف سودان الوجيهِ تحكي به أصبر على ضيم الدهر والتعري من شان من يرضى على الغليبة أبعد مجالي عن مجال التزرِّي من لا هوى قلبي دواه المغيبة أخاف لي من مجلس ما يذرِّي في جانبه بومٍ حساسه صليبة سوالف ما بين حكي التقرِّي يجرح فوادي عيةٍ وابتلي به يبدو أن الشاعر واجه من بعض الجلساء ما يسيء إليه فضاقت به مجالسهم، فيؤكد مرة أخرى أن أرض الله واسعة للهروب من شرور الناس: والله خلق في الكون ثلثين برِّ يسد عن ثلث البحر ويش لي به إلى نويت الدرب ماني بطرِّي أمس للفرجة حبال النجيبة واقطع سهاسيه الخلا بالتحرِّي واللى يجي به والى امرى يجي به يرضيني المقسوم خيرٍ وشرِّ في هذه الأبيات رضا وقناعة وإيمان بالقدر خيره وشره، وتسبيح لمن لا يعلم الغيب سواه. ثم يختم بأبيات ذات معنى ربما فر من خيرها الشاعر مبرراً ذلك: أحد على ربعه يحب التحرِّي للشر بلاس وخيره بجيبه هذاك انا يا الربع منه مْتبرِّي لو عضني ناب الدهر ما انتخي به من خوف يضحك لي وهو يستغرِّ يفتل حبال السو ما يندري به على أية حال ينقل لنا الشاعر هنا عادات لم يعد لها وجود لانتشار الوعي وتقدم البلاد. هذا الشاعر لم يكن مغموراً، ولم يكن بعيداً عن مجتمعه، ولكن من يرتدي عباءة الابداع يرى ما لا يرى الآخرون، ويمتع فكره وخياله بخوض غمار الحياة مصوراً ما يثيره من أحداث تصويراً منفرداً، وينظر للحياة نظرة أخرى، لذا قد يواجه من لا يقدر الابداع فيثار بردود فعل ضحلة يضيق بها صدره، ويرسمها بريشته لوحة معبرة فوق تصور الآخرين. بندر سرور شاعر مبدع لم يمهله الأجل رحمه الله، ولعل لنا عودة إلى شعره، وأود أن أشيد بالأستاذ سعيد بن عواد الذيابي مؤلف كتاب: «ديوان الذيابي ج1» الذي منه استقينا ما أوردنا من أبيات والكتاب حافل بكثير من الأشعار الجيدة والأخبار المفيدة وفي انتظار صدور الجزء الثاني منه.