نادرا ما تشدني القراءة في "علم الآثار"، لأن ذلك العلم ربما يحتاج الى التخصص والتفرغ، وبالتالي أستعيض عنه بالقراءة في الحضارات القديمة.. لولا أنه مؤخرا وقع بين يدي كتاب عن الحضارة الفرعونية لمؤلفه الأستاذ الدكتور حسن محمد محيي الدين السعدي رئيس قسم التاريخ والآثار بآداب الاسكندرية، ومن ذلك الكتاب اكتشفت أن علم الآثار لا يتوقف عند عرض الموجودات الأثرية ووصفها وانما يتخطى ذلك الى ما يشبه عمليات البحث الجنائي في محاولة لاستنطاق الحجر وكشف أسرار الحياة في زمن ضارب في القدم ربما لم نكن نعرف عنه شيئا. من الموضوعات الهامة التي يلح على طرحها الدكتور حسن من كتاب لآخر اجابته عن سؤال ما زال يختلف حوله المؤرخون وعلماء الآثار: "الى أي مدى يمكن الاعتماد على الموجودات الأثرية كوثائق تاريخية ؟ فعلماء التاريخ يرون أن الوثيقة التاريخية لا تحتمل صواب الاجتهاد وخطئه، أما الموجودات فلها هذا الاحتمال. وكأمثلة يقول الأثريون ان العملات التي يتم العثور عليها لفترة قديمة اذا كانت من الذهب كانت تدل على رخاء اقتصادي للعصر الذي استخدمها، ويرد المؤرخون: "ليس بالضرورة، فربما كانت قيمة الذهب آنذاك مغايرة لما نعرفه" وعلماء الآثار يرون أن جلوس المرأة أمام الرجال في رسوم الجدران في الحضارة المينوية بكريت دليل على وضع اجتماعي بالغ الرقي للمرأة.. برغم ذلك يرى الدكتور حسن السعدي أن حجرا مثل حجر رشيد مثلا كان الأساس في كشف كل أسرار الحضارة الفرعونية المجهولة حتى تلك اللحظة بسبب عصيان اللغة حتى فكت رموزها، وأن عقدا لهلينا اكتشفه الألماني شليمان في حفريات طروادة حول أسطورة حرب طروادة في الياذة هوميروس حولها الى تاريخ موثق. عالم الآثار – فيما يرى الدكتور حسن السعدي - قد تمتد يده بحذر لتلتقط حصوة صغيرة بعينها، من بين أكوام هائلة من الحجارة تبدو كلها متشابهة وان اختلفت الأشكال، يقلبها على كل جوانبها ممعنا في تأملها، بعدها تتدفق الأسرار. يقول مثلا: "هنا منذ ثلاثة آلاف سنة عاش قوم يفلحون الأرض، في هذه البقعة كانت مساكنهم، تميزوا بالصبر والجلد وسعة الحيلة، وامتلكوا ذائقة جمالية عالية. عرفوا نشاطا صناعيا تنوع بين نحت الأحجار وبين تشكيل المادة وتطويعها. كانت حياتهم رغدة مستريحة.." وان سئل عما يزعم قال ان الحجارة تتكلم دون أن يسمعها غيري، وان طلب اليه الشرح قال: .. هذه القطعة من الحجر ليست أصيلة ولكنها مصنوعة من طمي الأرض الذي لا يوجد الا في المناطق الزراعية، هي جزء من وعاء تم تشكيله وحرقه في النار على موقد لا يكون الا في منطقة سكنية، تخيل بقية الاناء الذي بقيت منه هذه القطعة، أظن أنه كان جميلا للمهارة البادية في التشكيل بما يشهد للذين صنعوه بحس جمالي رفيع، عادة ما لا يتوفر الا في مجتمعات الوفرة من المال والوقت، فقد حرص الصانع على اضفاء مادة لامعة على الفخار حتى لا تكون وظيفته نفعية غفلة من الجمال، وتخيل معي كم يد خشنة أمسكت بالاناء وكم من يد ناعمة وحانية.. مع هذا الرجل، الدكتور حسن السعدي لا يعود فهمنا لعلم الآثار أنه كالرياضيات بل فن يتفوق أصحابه على ذوي القدرات الخاصة في كشف الأسرار وقراءة الطالع، فعلماء الآثار يعيدون الى المثول أنماطا للحياة كانت قد زالت منذ آلاف السنين، يستعينون أحيانا بتجنيح الخيال الى أن يأتيهم بالحقيقة الغائبة، وبأدوات الشعر القادرة على الامساك بازمنة هاربة.. بالنسبة الي التعامل مع الآثار علم له قواعده، لكنه من قبل ومن بعد فن من أنضج الفنون.