يعتقد الكثير من الناس بأن الفساد ( corruption )، بصفة عامة، يكاد أن يكون محصوراً بالفساد المالي، والذي لا يوجد اي مجتمع، متمدناً كان ام متخلفاً، لم يعان من هذا النوع من الفساد. وسبب هذا الاعتقاد أن النفس قد جُبلت على حب المال، وبالتالي فلا بد لهذه النفس الضعيفة أن تخور امام إغراءات هذا المال حتى تجدها وقد حازت عليه بطرق لا يهمها إن كانت مشروعة ام غير مشروعة. وحقيقة الأمر أن الفساد الإداري لا يقل اهمية عن الفساد المالي، إذا اردنا أن نفصلهما عن بعضهما البعض، وذلك لأن الفساد الإداري يكون اشمل وأعم ويغطي نسبة ليست بالقليلة من أفراد المجتمع. ولذلك فإن المسؤولية مضاعفة من جميع أطياف المجتمع لمحاربة هذا الفساد الفتاك الذي ما برح ينخر في جسم المجتمع الهش القابل لاحتضان هذا النوع من الفساد خاصة في عدم وجود النظام الصارم والمساءلة التي تحد من وجوده وانتشاره. لقد تناول عالم الإدارة التون مايو (1880 – 1949 ) هذا النوع من الفساد بشيء من التفصيل عندما أكمل ما انتهت إليه العالمة ماري باركر فوليت ( 1868 – 1933) التي ذكرت بأن المنظمات تتأثر تأثيراً مباشراً بعنصرين اساسيين هما التأثير المجتمعي الذي يتكون من العلاقات الشخصية والطائفة القبلية والمحسوبية ( Nepotism )، اما الأمر الأخر فيتمحور حول السلطة المطلقة لمتخذ القرار والتي لا يوجد لها قيود او حدود. فقد ابان العالم مايو بنظرة تشاؤمية أن المجتمع الصغير يؤثر سلباً او إيجاباً على اية منظمة. فكلما تناول معيار التوظيف في تلك المنظمة اياً من الجوانب المجتمعية السابق ذكرها، دون الأخذ في الاعتبار المؤهلات العلمية المناسبة، كلما أدى ذلك إلى إحداث خلل شخصي وإلى تفاقم الفساد الإداري في تلك المنظمة. اما العنصر الآخر الذي تناوله مايو بنوع من الإسهاب فيدور حول السلطة المطلقة في عملية إتخاذ القرار والتي يشترك فيها الأفراد والأهالي والجماعات والمنظمات الخاصة. فمتخذ القرار او الشخص المسؤول يعاني في كثير من الأحايين من التدخل الفردي او الجماعي عند اتخاذه للقرار، وهو يفعل ذلك لاعتبارات تتعلق بعلاقة مواقفه وخياراته مع هؤلاء الأفراد والجماعات، وهي خيارات وعلاقات تظل غير معلنة او لا يُصرح بها. ولذلك يأخذ الشخص المسؤول تلك الخيارات الخاصة والشخصية في اتخاذه للقرار دون الإكتراث بالمصلحة العامة التى جنى عليها باتخاذه للقرار الفردي الأحادي الذي أفاد فيه شخص او مجموعة يتبادل وإياهم المصالح والمنافع الخاصة. وبتطبيق ما انتهى اليه الِعالمان مايو وفوليت على مجتمعنا المحلي، نجد أن هناك تمييزاً واضحاً لماهية الفساد الإداري وإلا لما رأى ولي الأمر أن تُنشأ وزارة خاصة تُعنى وتهتم بملاحقة الفساد بكافة أشكاله وأطيافه. كان يجب علينا ونحن أمة تؤمن بالله رباً وبمحمد رسولاً أن لا نجرّ انفسنا في دهاليز هذا الداء البغيض. هذا الداء الذي بدأ في مجتمعنا المحلي عندما اصدر الملك سعود – يرحمه الله – الأمر السامي رقم 43 في عام 1377ه محذراً من انتشاره وتماديه. هذا الأمر السامي، بالإضافة إلى مصادقة المملكة على جميع الإتفاقيات الدولية المتعلقة بمكافحة الفساد وإساءة استعمال السلطة، يؤكد جلياً ان لدينا العديد من الأنظمة التي تحارب وتكافح هذا الفساد، ما يعني أن العبء قد اصبح على عاتق كل واحد منا على ضرورة مكافحته والحدّ منه بكافة الأشكال والأساليب. مكافحة الفساد بكافة انواعه لن تتأتى إلا بالبدء بأساس المجتمع وهم الأطفال وذلك بالاهتمام بهم وغرس القيم والأخلاق الدينية ورفض أية سلوكيات غير حميدة مثل قبول الرشوة وعدم تحمل المسؤولية وعدم احترام النظام والقوانين المعمول بها. فالمسؤولية جسيمة على القائمين على الحركة التعليمية في جميع المدارس، العامة منها والخاصة، على توعية النشء من هذا الداء البغيض، وذلك بالإسهاب في الشرح عن أنواع الفساد واضراره وطرق مكافحته. كذلك يجب على القائمين في مؤسسات المجتمع المدني، والخاص، عقد الدورات التدريبية التي تناقش اسباب انتشار الفساد والعمل يداً بيد على اجتثاثه من المحيط العملي الذي يعملون فيه. هذا عدى سن القوانين التي تحارب الفساد في تلك المجتمعات والتأكد من تطبيق تلك القوانين بحذافيرها، لأن عدم تطبيق النظام يؤدي إلى التمادي في انتشار الفساد، ومن أمن العقوبة أساء الأدب. كما أن إعطاء الصلاحيات المطلقة للمسؤول قد تزيد من فساده، ولذلك فإنه يجب محاسبة ومعاقبة هذا المسؤول إذا ثبت أنه اساء للسلطة الممنوحة له. لا نبالغ إذا ذكرنا بأن الفساد بكافة أنواعه جريمة، لم يختلف عليها أحد في كافة الأديان والبلدان، وتعتبر جريمة لأنها تمس شريحة كبيرة جداً من المجتمع، وتؤدي إلى الإضرار بهذا المجتمع واقتصاده وبيئته برمتها، مما ينجم عنه آثار مدمرة تنعكس على النمو والتنمية بل وعلى الناس ونوعية معيشتهم. وصدق الله عزّ وجل حين قال في محكم تنزيله في الآية 205 من سورة البقرة "... والله لا يُحب الفساد"، وصدق رسوله الكريم الذي قال في الحديث الشريف (أدِّ الأمانة إلى من إئتمنك ولا تخن من خانك). والله اسأل ان يجنبنا الفساد ما ظهر منه وما بطن. * أكاديمي- عضو الجمعية الأمريكية للإدارة