مرّت فترة طويلة، لم تكن فيها قادرة على الجلوس على طاولتها، واستخدام حاسوبها، الذي كان يحلق بعزلتها الصامتة في فضاء الضوضاء والمحادثات والرسائل والصور. كانت المواقع الالكترونية الرومانسية هي ملاذها، حين لا تجد سوى الليل الأعزل والشموع الباردة. اختارت مجموعة من صديقات «النت»، لكي تعوض حزنها على صديقاتها اللواتي تناثرن في سديم الهجران خاصة بعد وفاة «غيداء» التي كانت مظلة بيضاء، تقيهن شمس القطيعة. حين انتشر خبر وفاتها على الطريق البري المؤدي للمدرسة التي تعمل بها، صارت الطرق بالنسبة لها كالأفخاخ التي تتربص بها. صارت طرقها تضمحل شيئاً فشيئاً إلى أن تختفي. وحيدة غدت. نهارها يتش يتشبث بستائر الليل، كي يستحيل الضوء ظلاماً، وكي لا ترى رماد الطرق، حينها، حين ينكفئ الليل، تتصادق عتمتها مع قبس بدأ يُشتتُ دجاها: أسماء مستعارة تحادثهم، تطمئن على أحوالهم، تحكي لهم عن مظلة غيداء البيضاء، تختار لهم قصائد لنزار قباني وبدر شاكر السياب. ها هي على طاولتها بعد فترة انقطاع. ها هي، يتباهى النرجس بهامتها وتفيض الزنابق البيضاء من ضفائرها المحناة. فتحت بريدها الالكتروني واختارت أن تكتب رسالة جديدة: - باركوا لي يا بنات. البارحة احتفلت بخطبتي». ذهبت لقائمة عناوين «إيميلات» صديقاتها المستعارات، وبدأت إضافتها لمن سترسل إليهن الرسالة. وما هي إلا لحظات، حتى وقعت عيناها على عنوان «إيميل» هز حياض رموشها، وجعل النرجس يذوي على أوردة هامتها. أشاحت بوجهها عن شاشة حاسبها الآلي. أرخت رأسها على حافة ظهر المقعد. - أأمسح عنوانها؟! كيف أمسح شيئاً ارتبط بها، وارتبط بي لها؟!! كيف تجرؤ أصابعي على أن تزيل حروفاً أخذت شكل ملامحها وروح ملحها؟!! هي وحدها التي حرصتُ على الاحتفاظ بعنوان بريدها الالكتروني، دون كل اللواتي تناثرن عني في ذلك السديم الأليم، فكيف أمحوه؟! كيف أمحوه، وهي التي ظلت معي إلى آخر مساء، وإلى آخر «تصبحين على جمالك»؟!! اتجرؤ عيناي على ألا ترى عنوانها الذي لم تشأ أن تجعله مستعاراً، بل يحمل نفس اسمها؟!! بشجاعة باكية، استدارت إلى جهازها. عدلّت في نص رسالتها: - «إلى صديقتي التي لا افتقد سواها. إلى الضوء الذي لايزال يتقد في ظلامي. باركي لي يا غيداء. لقد احتفلت البارحة بخطبتي». ولم ترسل الرسالة لسواها.