في هذا الزمن العجيب، ووسط هذه الثورة الإعلامية وشبكة الاتصالات وبرامج التواصل الاجتماعي، ضاعت الحقيقة واختفت وماعاد أحدنا يعرف من الناصح الأمين ومن العابث الأثيم، القابعون خلف لوحات المفاتيح الهاتفية أو الحاسوبية، فتقرأ منهم النصائح والتعليمات والفوائد والوصفات والفتاوى، وأنت تحسبهم متخصصين في فنهم أو عارفين بتخصصهم، وتظنهم كباراً في العمر فعلمتهم الأيام وعركهم مر السنين والأعوام حتى خرجوا منها بالحكمة والخبرة، وتحسبهم أخوة موثوقين في دينهم ووطنيتهم وإنسانيتهم، كتاباتهم منشورة في كل موقع وعلى كل صفحة عامة أو خاصة، يتحدثون بلغة الناصح الأمين أو بأسلوب الداعية المشفق أو بطريقة المعالج الخبير، يقرأ كتاباتهم الصغير والكبير والعالم والمتعلم والعاقل والسفيه، ولكنهم مجهولون وفي نفس الوقت موثوق بهم وبما يقولون عند كثير من المتصفحين والقراء، والدليل اننا نستدل بأقوالهم ونستشهد بنقولاتهم وكأنها حقائق، كم مرة قرأنا عن علاجات بالأعشاب وصدقنا!! ....،وكم مرة قرأنا أحاديث موضوعة على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فصدقنا!!...، كم فتاوى نقلت لنا تناقض فتاوى أهل العلم الموثوقين وصدقنا!!!...،كم من أخبار ملفقة تمس أمن الوطن وتطعن في أمانة الناس وتشوّه صورهم وترميهم في أعراضهم وصدقناها!!!.... نصدق كل ماينقل دون تمحيص ودون إعمال لعقل ودون تفكير بل ودون سؤال لأهل العلم والمعرفة، مع ان التقنية التي جلبت لنا هذه المعلومات هي التي مكنتنا من التحقق من المصداقية عن طريق محركات البحث أو عن طريق المواقع ذات الشأن، ولكننا قوم كسالى تعودنا على القص واللصق متعللين بأننا مشغولون في عصر السرعة، فأصبحنا دون أن ندري موصلين وسعاة بريد وموزعين لبضاعة قد احتطبت بليل، فربما ساعدنا في نشر الأحاديث المكذوبة على الرسول صلى الله عليه وسلم، وربما تسببنا بأمراض انتكاسية بسبب وصفة طبية أو عشبية خاطئة، وربما ساعدنا على خلخلة الأمن وفي نشر القصص الكاذبة والوقائع الملفقة والاتهامات المزورة والفضائح دون أن نشعر... وعذرنا الجاهز دائما بأننا كنا ننقل ولم ننوي الإفساد أو الخطأ، وكما قال صلى الله عليه وسلم (كفى المرء إثما أن يحدث بكل ماسمع) وقال (بئس مطية الرجل: زعموا)، ولعلنا الآن نفهم النبوءة التي أخبرنا بها النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان حين أخبرنا عن الرجل يكذب الكذبة حتى تبلغ الأفق، وكأنه يتحدث عن هذا الزمن الذي انفتحت فيه السموات وتقاربت فيه القارات فأصبحت كلمات تكتب في قرية صغيرة في الصحراء ربما قرأها في نفس الوقت أمريكي قابع خلف مكتبه في امبايرستيت بنيويورك ستي، أو لعل مقطع فيديو يتم تحميله بواسطة مراهق صيني ساذج على اليوتيوب، فيشاهد المقطع في نفس الوقت فرنسي يحتسي قهوته ويتصفح بالصدفة!!.. لقد وقفت بنفسي على عدد النساء اللاتي يتصدين لمعالجة المشاكل الأسرية في بعض المواقع المشهورة، واكتشفت أن إحداهن فتاة مراهقة دون الخامسة عشرة فاشلة في دراستها عزباء وتتحدث مع المتزوجات كيف يتعاملن مع أزواجهن وكيف يدرن مشاكلهن الزوجية، واكتشفت أن أخرى تشتكي من عقد نفسية ووساوس واكتئاب وفشل في إدارة حياتها الزوجية، وقد جاءت إلى عيادتي لأكتشف بالصدفة المحضة أنها أم فلان التي تقوم بالإرشادات والنصائح في تربية الأطفال وإصلاح المشاكل الأسرية وطرق التعامل مع الأزواج، هذا غيض من فيض، وهذه حال من نعلم فكيف بالمستور، خصوصاً وان هناك من يتربص بأمن هذا البلد ودينه وشبابه، فهل سوف نصحو من سكرة مانحن فيه لنميز الخبيث من الطيب، أم ماذا تخبىء لنا الأيام ؟؟.. وعلى دروب الوعي والهدى نلتقي..