كانت هنا.. أفتّش وأدور.. أبحث في كل مكان قريب وقصي.. كانت هنا.. أين ذهبت؟ هي لم تذهب كانت للتو هنا.. هذا صوتها.. هذا هو يلوّن الحجرات، والحيطان وخشب المنزل القديم. لو حكت هذه الساحة.. آه لو حكت هذه الغرفة.. يا الله اشددْ قلبي بإيمانك ويقينك.. اللهم ارحم ضعفي، فقد كانت هنا. لو حكت هذه الديوانية.. هذا النّجر الصامت، هذه الأعمدة.. هذه النوافذ. لو حكت هذه الرفوف.. ماكينة النار.. لو حكى الوجار والفنار المعلق، في الحبل الممتد في صمت يابس محنط. هذا الباب الضخم في قلبه باب صغير. وحلقة الباب .. أحركها، فتدق.. ترن كأن كل شيء في مكانه وزمانه. أدقها مرة.. مرتين.. عشراً. تدق كعادتها وأذعنت للاجابة. أتأكد من أنها ترن، يخيل إليّ أنها تكذب، لا ترن، لو رنت لسمعتُ منادياً ينادي: «يا مرحباً تفضل». لسمعت صوتاً هاتفاً من أول الدار، من أوسطها، من أقصاها، أخدع نفسي بأن الصوت ضعيف لا يسمعه من بالدار، فأنادي.. صوتي يغور في أعماق البيت، يدوّي، أسمع صداه في كل غرفة كل زاوية، يعود إليّ الصدى، أعود أنادي، يذهب الصوت كما يذهب في أعماق الكهف، فيردّ الصدى، يرد الصمت. أمشي قليلاً، يخيل إليّ وأنا في وسط الدار، أن كل باب غرفة سيفتح، سيظهر شخص. سيظهر وجه.. وجه عمي سيظهر.. وجه جدتي سيظهر، وجهها سيظهر، بلا شك سيكون أول البازغين، أعض على شفتي ثم أهمس، السلام عليكم، السلام عليكم يا أهل الدار.. ال.. ال.. لا شيء لا شيء، إلا الصمت. رحت أفتش. خرجت من غرفة إلى أخرى. هنا كانت تجلس. هنا في «الصباح» تفرش «الزولية» تدار القهوة، وهي بين الجميع تشع تهليلاً وترحيباً.. افتح غرفة أخرى. أبهت، أصيح، أصمت، هذا الصندوق إنه هو. هنا أدرج طفلاً. أسند يدي، أشد مفاتيحه، أُدخل أصبعي، أسحب المسلة الصغيرة، أجد فيها بقايا أشياء، تنبعث رائحة، ليست عطراً، ليست مسكاً، بل شيء آخر.. أعظم وأكرم، رائحة الزمن، زمن الحلم الذي غادر وسافر ورحل منذ زمن سحيق كعمر الدهور، ها هو يعود يشبع أنفي، فأعود ألثغ الراء وأمص أصبعي. أعود إلى ساحة الدار.. أرفع بصري، النخلة المطلة لا تزال واقفة كما هي!! هي.. هي.. لم تزد أنملة، لا تزال تقف في عزة وجلال، لا تزال العصافير تبني أعشاشها.. تتطاير وتلعب على أعسبها. ونشيد عذب ينساب في خشوع، كأنه ينبعث من أوتار السنين، والنخلة تميس في كبرياء ودلال. لقد عقدت صحبة مع البيت.. هي تطل عليه في حنو.. وهو يرفع رأسه، يفتح ذراعيه.. * * * صبيان يلعبون.. طفلة تحبو.. إبريق شاي وصينية بيضاء بين يدي امرأة، رائحة بخور، بساط أحمر مفروش.. مساند مزركشة قد صُفت على الجدار، الزمن يستيقظ، كل شيء يعود يتحرك.. أصعد إلى السطح، ثم أصعد إلى سطح الغرفة العليا.. في هذه اللحظة أقف على حافة الجدار.. أثني جسدي قليلاً. أمد يدي إلى عسيب النخلة أجرّه فينجر.. أطلقه فينسرح منساباً يذهب ويأتي.. يرف ويهب بالهواء الرخي.. أتركه يتأرجح، يذهب ويأتي.. أمشي على السطح.. السطح نظيف، وأبيض.. ومتضامن، متضامن الحيطان، لعبة طفل غافية، ذابلة، أكلت الأرض جسدها، ولم يبق إلا نصف رأسها وشعر قد نشب في التراب اليابس.. أعود.. أنزل الدرج.. أعده واحدة واحدة.. أمشي في الساحة.. أعد الأبواب.. أفتح غرفة أخرى.. أفتح جرحاً آخر.. رائحة أخرى زكية ليس لها وصف، القلب وحده هو الذي يهتدي إلى وصفها.. رائحة، لا تصنع، ولا تبدع، لا تنبعث من زهر ولا من عطر.. رائحة لها جلال ينسكب في الروح، فيدخلها خشوع. يغمرها ضياء. أدرج في الغرفة، أقلب طرفي في أركانها.. في حيطانها.. أحس أن شيئاً يناديني برفق. فأقدم. الجدران تبتسم.. أمشي الهوينى.. أفتش بروحي وأحداقي، وأفتح كل نوافذ القلب، أسمع همساً فأقف..!! أرى شيئاً عجباً.. أسمع صوتاً يهمس!! أرى نوراً يشع!! أرى يدين مرفوعتين إلى السماء.. أسمع نشيجاً وبكاءً وتضرعاً إلى الله.. أرى سجادتها، أشمها وأبكي، أشمها وأبكي، فأمي تصلي أمامي.. أمي لم تمت..