عندما يترجل الموظف عن كرسي الوظيفة سواء أُعْفِيَ منها، أو استعفَى، أَو أحيل إِلى المعاش. فان قطار حياته الوظيفية لابد انه توقف عند محطة إجبارية قد تكون غير مفضلة لديه تدعى "محطة التقاعد" ويعتبر سن التقاعد لدينا بقوة النظام لمن يبلغ (60) سنة بالنسبة للموظفين الخاضعين لنظام الخدمة المدنية وكادر أعضاء هيئة التدريس بالجامعات والخاضعين للوائح الوظائف الصحية والمستخدمين والخاضعين للوائح المؤسسات العامة غير الخاضعة لنظام الخدمة المدنية. أما أعضاء هيئة التحقيق والادعاء العام فسن إحالتهم للتقاعد هو (65) سنة، وأما المشمولون بنظام القضاء (القضاة الشرعيين) فهو (70) سنة وكذلك الأمر بالنسبة للعاملين في مجال القضاء بالمحكمة الادارية (ديوان المظالم). ويكتنف هذه المحطة لدى المتقاعد نوعا من اجواء اليأس والإحباط والحنين الى أيامٍ قد خلت، أنضر من الورد وأحلى من الربيع، ويمتلكه الشعور بالاغتراب، وفقدان الأدوار الاجتماعية، وتجاهل زملائه واصدقائه - من ذوي المصالح الخاصة - له، وسيطرة هاجس انخفاض الدخل، وان الجزء الأكبر من دخله سوف يبتلعه الدواء، ومتطلبات المنزل والأسرة. وعدم القدرة على التوافق الاجتماعي مع المرحلة العمرية الجديدة. كل ذلك يتزاحم في فكر ورؤى ذلك المتقاعد الذي بدأ بالفعل بعد احالته الى التقاعد في حراك النصف الثاني من عمره -اذا امده الله بعمر- ويكون شعوره بفقدان القيم الاجتماعية والمزايا التي كان يحصل عليها عندما كان على رأس العمل، في أوجّه إذا كان في منصب كبير له بريقه ومزاياه المادية والمعنوية.. كل ذلك يجعل مستوى الرضا عن هذه المرحلة عند المتقاعدين مختلفاً من شخص لآخر: فمنهم من يتقبل التقاعد على أنه سنة الحياة، وأن الوظيفة كزهرة الخريف، ويتكيف مع هذه المرحلة الجديدة وتتجدد لديه الدوافع، للاستمرار في العطاء، ومنهم من يجد في التقاعد ضالته بالانفكاك من قيد الوظيفة المثقل فيخلد الى الراحة والاسترخاء، بالبعد عن أجواء العمل والتزاماته والاستمتاع بالسفر والسياحة، ومنهم من يرفض هذا الواقع بتاتاً، ولا يعترف أبداً بانه بلغ ذلك العمر، ويعيش أزمة حقيقية بسبب عدم تكيفه مع الواقع الجديد، ولا يشعر بأي نوع من أنواع السعادة. كل ذلك متصور ويعتبر واقعاً ملموساً لدى كل متقاعد شئنا أم أبينا في هذا الجانب الواقعي والملاحظ على بعض الموظفين المحالين الى التقاعد. في حين انه في الجانب الآخر المضيء من هذه المرحلة، قد تكون الفرصة مهيأة ومتاحة للمتقاعد مع وفرة الوقت والفراغ الذي حصل عليه بموجب هذا التقاعد وأصبح بعده حراً طليقاً لا يشغله شأن عن شأن، كما كان حاله سلفاً في معترك الوظيفة لينطلق إلى حياة اخرى بأمل وروح جديدين مع وضعه الجديد ليعيش حقبة زمنية اخرى في طورها المختلف عن ذي قبل، وذلك بان يهتم بأمور دينه وتكون الفرصة متاحة له بان يستزيد من اعمال البر والعبادة ويشد الرحال ويزور المسجد الحرام والمسجد النبوي، وكذا ان يطور برنامجه الصحي ولياقته الصحية بمزاولة الانشطة الرياضية في المراكز الرياضية والاندية وميادين رياضة المشي المنتشرة بكل مدينة ومحافظة وقرية. كما ان الفرصة مهيأة ومتاحة لمزاولة العمل في القطاع الخاص ودخول مضمار التجارة لزيادة دخله معتمداً في ذلك على خبرته وحنكته وعلاقاته التي اكتسبها ابان عمله من التعامل مع شرائح عديدة من الناس، والفرصة كذلك مهيأة للمتقاعد بان يرفع من مستوى الثقافة العامة لديه في تخصصات اخرى غير تخصصه الذي خاض فيه مجال العمل وذلك بالالتحاق بالدورات سواء كانت لغات أم علوما انسانية بما يساعده على التسلية والمتعة المفيدة في جميع المجالات. ومن نافلة القول ان التقاعد كإجراء وظيفي يقوم باسدال الستار على حقبة زمنية من خدمة الموظف لكي يستريح من عناء والتزامات الوظيفة ليتفرغ لنفسه، فان له أيضاً أهدافه الوطنية التي من ابرزها إفساح المجال أمام الشباب لتنشيط الادارة الحكومية وضخ الدماء الشابة فيها.. ولا يحسن بأي حال من الأحوال ان نعتبر هذه المرحلة من حياة الموظف بعد انفكاكه من عقدها مرحلة أزمة نفسية او مرحلة توقف ذهني كما يتصور او يعتقد البعض، بل على العكس يجب ان نسلّم بأن هذه المرحلة من ارقى مراحل النضوج والصفاء الذهني والعطاء المهني، إذ ان الكثير من الشواهد أوضحت لنا إقليمياً وعالمياً أن الكثير من المبدعين والمتميزين قد وصلوا إلى قمة عطائهم واشتهروا عالميا وحصلوا على جوائز عالمية في مرحلة الحياة الثانية ان صح التعبير (التقاعد) بعد تقاعدهم من الوظيفة. والحق أقول ان هذه الثروة الوطنية من المتقاعدين الذين أحيلوا على التقاعد بعد كفاح طويل في الوظيفة، ممن هم من الفئة الوسطى او من الفئة العليا في الادارة او من المشتغلين في الحقول العلمية من ذوي المؤهلات والكفاءات العليا مثل الباحثين والمشتغلين في التدريب وأمثالهم ممن لديهم حصيلة وافرة، يعتبرون خليطا من المعارف والخبرات والمهارات الثرية الناتجة من تنوع المؤهلات والخبرات وتجارب العمل التي مروا بها اثناء عملهم في اي تخصص كان. وبالنظر إلى هذا الكم البشري والأعداد التي تتدفق سنوياً وما لديهم من إمكانات علمية وخبرات ثرية متراكمة يحتاجها الوطن تجعل الاستفادة من تلك الخبرات ضرورة ملحة لكي تكون شريكاً حقيقياً في عملية التنمية التي تعيشها بلادنا، ومؤدى ذلك اعتبار هذه الخبرات والتجارب رابطاً قوياً بين جيل مضى وجيل جديد يحمل الراية من بعدهم ذلك الرابط يأخذ على عاتقه تطوير مهارات الأجيال الجديدة عن طريق الاستشارات او الدراسات والبحوث، او برامج التدريب والتي منها في تطويرالمهارات والقدرات الوظيفية سواء في القطاع الحكومي او القطاع الخاص، ويمكن بلورة ذلك بتعاون وزارة الخدمة المدنية مع المؤسسة العامة للتقاعد والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية لرصد هذه الخبرات وتوثيقها وذلك بإنشاء مركز متخصص يدعى "مركز الخبراء الوطني للمتقاعدين" تسجل فيه قوائم المتقاعدين التي تحتوي جميع المعلومات (الاسم، المستوى العلمي، الخبرات، المناصب)، ثم تفرز هذه القوائم وتصنف حسب المعايير المتبعة في التصنيف بوزارة الخدمة المدنية ويمكن الاستفادة منها عن طريق نشر وطرح تلك الخبرات والتجارب الى القراء واصحاب القرار كل في مجال تخصصه. وبعد: هل يحتاج أولئك المتقاعدون إلى التفاتة؟.. نعم إنهم يحتاجون إلى التفاتة تدخل في إطار رد الجميل وما إنشاء الجمعية الوطنية للمتقاعدين الا دليل على ذلك لتعمل على تحقيق آمال وتطلعات هذه الفئة العزيزة على قلوبنا جميعاً لأننا كما نريد منهم فإنهم كذلك يريدون، وذلك بأن نضمن لهم حياة سعيدة تحفظ لهم كرامتهم وحقوقهم، كونهم لا تقل أهميتهم عمن هم على رأس العمل، والوطن في حاجة اليهم ولعل رفع الحد الأدنى للمعاشات الشهرية وإيجاد علاوة سنوية لهم والتأمين الصحي لهم وإصدار بطاقة خاصة بهم، بغض النظر عن سقف الراتب تخولهم الحصول على تخفيضات بالتنسيق مع الجهات الخدمية، والجمعيات التعاونية المختلفة وإعفائهم من رسوم الخدمات الحكومية وتخفيض قيمة وسائل النقل، وان يكون لهم نسبة معلومة من مشاريع الإسكان الحكومي وان يكون لهم نوادٍ تجمعهم، كل ذلك من آمالهم وتطلعاتهم خصوصاً اذا ما عرفنا انه على مدى خدمتهم، أن مقدار ما كان يستقطع من رواتبهم 9%، مضافا عليها 9% للمدني و13% للعسكري من الدولة، و9% من موظف القطاع الخاص مضافا إليها 9% من صاحب العمل مؤسسة أو شركة، فهم شركاء أساسيون مع هاتين المؤسستين في العائد من الأرباح في استثمارات المؤسسة العامة للتقاعد ومؤسسة التأمينات الاجتماعية الضخمة التي اصبحت واضحة للعيان. هذه الاماني التي تعتادهم كل يوم.. وتزدهر في خواطرهم من جديد تؤكد إيمانهم بأنهم محل الرعاية والعناية باعتبارهم مصدراً لا ينضب من الخبرات والتجارب التي يجب الاستفادة منها واستثمارها في مسيرة التطور والنماء والتأكيد على أهمية ما قاموا به من انجازات في الماضي وما يتوقع منهم من المشاركة في الحاضر والمستقبل، والله من وراء القصد.