إن المعلومات المتدفقة التي تكتنزها وتتبادلها بلايين الأجهزة حول العالم تؤكد حقيقة مهمّة وهي طغيان المعلومة على المعرفة والفكر الإنساني. وهذه مرحليّا ظاهرة متوقعة وطبيعيّة ولكن إن لم ترشّد مخرجاتها فستتّسع وتصبح حقيقة ومشكلة تتجاوز حدود الدول والثقافات لجهة التنازع المعلوماتي وانخفاض الموثوقيّة والتشويش الفكري ضمن أدوات الحروب المعلوماتيّة. وقد لاحظنا كيف هو الأثر الملموس والمباشر لهذه الطفرة المعلوماتيّة من زاوية كثافة الاستهلاك البشري للمعلومات وتسارع معدل تداولها مع وضوح انخفاض اثرها الفكري والمعرفي الإيجابي (تنمية وتواصلا) بشكل يثير الأسئلة. وحيث يأتي الفكر قائدا للمعرفة الإنسانيّة التي تُعدُّ المعلومات ركنا أساسا في بنائها إلاّ أن المتغير المواكب للبناء المعرفي للفكر الإنساني في عصرنا هذا هو أن نشاط جمع البيانات، وتخزين وتبادل المعلومات لم تعد عملا مؤسسيّا منسقا وإنما هي في مجملها نشاط إنساني جماهيري يتم في صور لم تُدرس وتُحلل ولم تظهر كل نتائجها بعد. في الجانب الفني التقني فإن الملاحظ أن نسبة مهمة من التراث المعرفي الإنساني (الرقمي) باتت مرهونة بطول حياة الأجهزة والوسائط بين أيدي الناس ومدى القدرة على صيانتها وحمايتها. من هنا يأتي تحدي مواكبة الحاجة لبرامج تشغيل وتحديث هذه المخازن الكبيرة والصغيرة والتي لا تملك معظم البلدان "المستهلكة" لأدوات عصر المعلومات منها سوى إذن التصدير من الدول المنتجة التي قد تمنع التصدير تحت إلحاح أيّة بادرة مصلحة اقتصاديّة أو حسابات ابتزاز أو صراع سياسي. على صعيد غزارة المعلومات فالأمريكيون يشتكون اليوم من خسائر كبرى ناجمة عن ظاهرة المعلومات الزائدة عن الحاجة Information overload والتي يقدّرون خسائر قطاع الأعمال الأمريكي جراءها بنحو 650 مليار دولار سنويا نتيجة إهدار الوقت والموارد للبحث والتقصي والفلترة بين هذه الشركات وموظفيها ومستهلكي منتجاتها. وعلى هذه المؤشرات يلزم على راغبي دخول مجتمعاتهم لنادي عصر المعلومات من بوابته المؤسسيّة أن يدركوا أن فتح الموانئ والاستيراد ليس حلا بل سيصبح المشكلة. ومن هنا ينبغي أن يبادر المخططون إلى دعم وتبني الصناعة والاستثمار في قطاع المعلومات والمعرفة فالمعلومات تحتاج إلى صناعة محتوى وإدارة مخازن المعرفة وأمن المعلومات بتوظيف قوى بشريّة وطنيّة تضطلع بمثل هذه المهمة التاريخيّة. والمؤمل مع توطين هذه الصناعة ان تنشأ أجيال إداريّة واعية بدورها الحضاري يمكنها أن توظف ثمار المعلومات لقيادة المجتمع نحو عصر المعرفة المبني على فكر راشد وصناعة وطنيّة تلبي حاجات المجتمع وتستجيب لطموحاته. وعوداً على أزمة الفكر عليك فقط أن تتبع مسار أيّة حزمة معلومات الكترونيّة متدفقة من جهة أو (رمز) اجتماعي لفترة وجيزة وستجد في النهاية أنها لا تصنع فكرا ولا تقدمه. والأكثر وجعا حين تجد من يمتهن تصدير الرسائل المعلوماتيّة (الفكريّة) متجرِّدة من مسؤوليتها الأخلاقيّة والحضاريّة في صناعة الوعي الإيجابي بعيدا عن هوى التيار والتوجه الطائفي والسياسي الضيق. *مسارات: قال ومضى: السر الوحيد في عصر المعلومات هو ما لم تحدّث به نفسك..