روى لي أحد الأصدقاء قصة طريفة تحمل جملة من المضامين العميقة .. القصة دارت أحداثها في سنغافورة قبل فترة وجيزة من الزمن وأبطالها شابان أحدهما سعودي - يعيش مع أسرته هناك - وزميل له سنغافوري وتربطهما صداقة وطيدة وبعد أن تخرجا من الثانوية العامة تقدما للالتحاق بإحدى الجامعات العريقة هناك ولكن ولان هذه الجامعة من الجامعات المشهود لها بجودة مخرجاتها فإن لها معايير خاصة في القبول منه بالطبع تحقيق معدل مرتفع في شهادة الثانوية العامة بالاضافة الى جملة من الشروط الاخرى، وهو ما تحقق للطالب السعودي ولم يتحقق لزميله السنغافوري الذي يحتل والده منصباً رفيعاً في الحكومة السنغافورية. فاقترح الشاب السعودي على زميله السنغافوري أن يطلب من والده -وبحكم موقعه الوظيفي- استثناءه من هذا الشرط وتمكينه من الالتحاق بالجامعة فرفض، بحجة أن والده ربما يعاقبه إذا طلب منه ذلك، ولكنه وبعد إلحاح من صديقه المتشبع بثقافة الواسطة !! قرر أن يتجرأ ويطلب من والده كسر النظام، فاستجمع قواه وذهب لوالده مستجدياً. أتدرون ماذا قال له والده؟ لقد تجهم وجهه واستشاط غضباً وقال له إنني أعلم أن هذا الرأي ليس من بنات أفكارك ولذلك سأصفح عنك هذه المرة وإن تكرر مرة أخرى سأطردك خارج المنزل!!. لن أعلق على هذه القصة وسأترك التعليق لكم أيها القراء الأعزاء! تذكرت أحداث هذه القصة الطريفة وأنا أتابع عبر التلفزيون خبر استقبال خادم الحرمين الشريفين -يحفظه الله- البروفيسور تشون فونغ شي الذي تم اختياره ليكون الرئيس المؤسس لجامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية حيث سيتولى مهامه اعتبارا من الأول من شهر ديسمبر هذا العام. والحقيقة أنني وغيري لم نفاجأ باختيار هذه الشخصية الفذة لرئاسة هذه الجامعة التي نعقد عليها آمالاً عريضة بإذن الله للنهوض بمجالات العلوم والتقنية ليس في بلادنا وحسب وإنما على مستوى العالم -بإذن الله- والبروفيسور شي - لمن لايعرفه - يعتبر من الشخصيات المرموقة عالمياً حيث يبلغ من العمر 62عاماً ويشغل حالياً منصب رئيس جامعة سنغافورة الوطنية ويمتلك خبرة عريضة في المجال الأكاديمي والقطاع الصناعي أهلته ليرأس واحدة من أفضل الجامعات على مستوى العالم إذ صنفت ضمن أفضل خمسين جامعة على مستوى العالم وذلك بفضل جهوده المتميزة إذ تمكن أثناء رئاسته لهذه الجامعة من تحويلها من معهد مرموق للتعليم إلى جامعة تجرى فيها الأبحاث بكثافة حيث اجتذبت أفضل المواهب من الجامعات العالمية وأقامت ارتباطات إستراتيجية مع جامعات الأبحاث الرائدة حول العالم، وهو ما نتطلع إلى حدوثه مستقبلاً في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية بحول الله تعالى. الخواطر السابقة تداعت وأنا أتابع التغطية الإعلامية الخجولة مع الاسف ! لمؤتمر الاقتصاد المعرفي الذي انعقد في مدينة جدة مؤخراً بفضل الجهود المكثفة التي يبذلها (عراب) هذا الموضوع صاحب السمو الأمير فيصل بن عبدالله بن محمد آل سعود رئيس مجموعة الأغر للفكر الاستراتيجي. وفي الحقيقة وكأي مواطن يتطلع الى رقي بلاده وتطورها فإنني شعرت بالغبطة والسرور إزاء تلك المنجزات التي حققتها مجموعة الأغر والتي أعلنها سموه في تصريح لجريدة عكاظ (الثلاثاء 6محرم 1429ه) حينما أشار إلى أن المجموعة انتهت من إعداد الإستراتيجية الجديدة لبناء الإنسان والمجتمع المعرفي بحلول عام 1440ه تلك الإستراتيجية التي احتاجت إلى جهود مشتركة وشارك فيها 300رجل وسيده من مختلف التخصصات وامتدت لعام كامل، ولفت انتباهي ما ذكره سمو الأمير فيصل حول أبرز ملامح هذه الإستراتيجية المتمثلة بمنهجيتها التي أطلق عليها (منهجية الأغر) حيث ستركز على إنسان الوطن وكيف يمكن بناء مجتمع معرفي في العام 1440ه وكيف يمكن الاستثمار في الإنسان وبناء الوطن وكيف يقود هذا الوطن الأمة على المستوى الخليجي أو العربي والإسلامي ويكون من الدول المؤثرة في العالم على مستوى الإنسانية وذلك من خلال الرسالة والميزة التي شرفنا وكرمنا الله بها والمتمثلة في خدمة الرسالة والحرمين الشريفين. ولعل أهم ما في هذه الإستراتيجية - والحديث لسمو الامير فيصل - كيف نستطيع الاستثمار في بناء الإنسان والمجتمع المعرفي للتعامل مع معطيات المرحلة القادمة. لقد استوقفتني العبارات السابقة ودفعتني للبحث حول ما هية الاقتصاد المعرفي واستحضار عناصره وسماته وفوائده وعلاقته بالإستراتيجية التي تحدث عنها سمو الأمير فيصل، فالاقتصاد المعرفي في أبسط مفاهيمه هو (الاقتصاد الذي يرتكز على الحصول على المعرفة والمشاركة فيها واستخدامها وتوظيفها وابتكارها وصولاً إلى تحسين نوعية الحياة بمختلف مجالاتها عبر الإفادة من خدمة معلوماتية ثرية وتطبيقات تكنولوجية متطورة واستخدام العقل البشري كرأس للمال وتوظيف البحث العلمي لإحداث مجموعة من التغييرات الإستراتيجية في طبيعة المحيط الاقتصادي وتنظيمه ليصبح أكثر استجابة وانسجاما مع تحديات العولمة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وعالمية المعرفة والتنمية المستدامة بمفهومها الشمولي التكاملي). ويرتكز الاقتصاد المعرفي على جملة من العناصر من أهمها: @ وجود بنية تحتية مجتمعية داعمة. @ وجود مجتمع يسعى إلى التعلم. @ توفر صنّاع للمعرفة لديهم القدرة على التساؤل والربط. @ إيجاد منظمة بحث وتطوير فاعلة. @ إمكانية الوصول إلى الإنترنت. أما بالنسبة لأهم وأبرز فوائد الاقتصاد المعرفي فتمثل فيما يلي: @ أنه يمنح المستهلك ثقة أكبر واختيارات أوسع. @ تغيير الوظائف القديمة واستحداث وظائف جديدة. @ يتعاطى مع مختلف المجالات تجارياً وتعليمياً وإدارياً ويحقق التبادل الإلكتروني. @ يقوم على نشر المعرفة وتوظيفها وإنتاجها في مختلف المجالات. @ يدفع المنظمات إلى التجديد والإبداع والاستجابة لاحتياجات المستهلك أو المستفيد من الخدمة. @ يؤثر في تحديد النمووالإنتاج والتوظيف والمهارات المطلوبة. أما بالنسبة لسمات الاقتصاد المعرفي فهي تتمثل بالآتي: @ الاستثمار في الموارد البشرية باعتبارها رأس المال الفكري والمعرفي. @ الاعتماد على القوى العاملة المؤهلة والمتخصصة. @ انتقال النشاط الاقتصادي من إنتاج وصناعة السلع إلى إنتاج وصناعة الخدمات المعرفية. @ اعتماد التعلم والتدريب المستمرين، وإعادة التدريب. @ توظيف تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (ICT) بفاعلية. @ تفعيل عمليات البحث والتطوير كمحرك للتغيير والتنمية. @ ارتفاع الدخل لصناعة المعرفة كلما ارتفعت وتنوعت مؤهلاتهم وخبراتهم وكفايتهم. @ عقود العمل هي أكثر مرونة ومؤقتة ومرتبطة بالمهمة. وحينما نتمعن بمفهوم الاقتصاد المعرفي وعناصره وسماته نجد أنه وفي ظل الوضع الحالي والمستقبلي يتحكم في عمليات التقدم والازدهار وأن غيابه يؤدي إلى حدوث التخلف والأزمات والمشاكل ومن هنا فإن الإستراتيجية التي تحدث عنها سمو الأمير فيصل تنطلق في مجملها من واقع هذا المصطلح ولا شك أننا في واقع اليوم بأمس الحاجة إلى هذه الإستراتيجية فالأمل يحدونا إلى الاستفادة من معطيات العصر وتوظيفها في استثمار العقل البشري والاستفادة من قدراته. ولعل ما يجعلنا أكثر تفاؤلاً بمستقبل مشرق بحول الله هو تلك التجارب الناجحة التي أشار إليها سمو الأمير فيصل في حديثه لعكاظ حينما طالب القطاع الخاص بالمشاركة بدور أكبر في المرحلة المقبلة إلى جانب الدولة حيث أوضح أن المملكة مرت بفترتين الأولى فترة السبعينيات وهي مرحلة مهمة رأينا فيها كيف استطاعت القيادة الرشيدة أن تتبنى المشروعات التنموية والخدمية العملاقة، فعندما ارتفع سعر البترول في السبعينيات استثمرناه في البنية التحتية وعرفنا كيف ننظر للبترول بتفكير بعيد النظر أي ليس باعتباره وقوداً فحسب بل كقيمة مضافة للاقتصاد الوطني فبدلاً من تصديره ب 10دولارات ليرد علينا ب 1000دولارفإننا توجهنا نحو بناء الصناعات وتوظيف الإنسان. ولقد كان استشهاد سموه في محله حينما أشار إلى التجربة الرائدة في إنشاء الهيئة الملكية للجبيل وينبع التي أخذت على عاتقها تشييد وبناء المدينتين الصناعيتين في الجبيل وينبع ذلك العملاق الاقتصادي الذي يعد خير شاهد على الاستثمار في الإنسان. متطلعاً سموه إلى أن ينعكس ذلك مرة أخرى في الفترة الثانية التي نعيشها حالياً وهو ما قام به خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- حينما أطلق جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية في الوقت الراهن وهذا من شأنه الاستثمار في الإنسان والفكر. وفي الختام نستطيع أن نستخلص مما سبق أننا بأمس الحاجة إلى تبني فكر يرتكز على قيمنا الخالدة المنطلقة من تعاليم ديننا الحنيف ويسعى إلى الاستفادة من مستجدات العصر ومعطياته مع التأكيد على أن كل شيء بات يعتمد على المعرفة باعتبارها الحلقة التي لا غنى عنها في أي نشاط حيث يتم الاعتماد عليها في تشكيل أو إعادة تشكيل القوى الاقتصادية المحلية والعالمية، مع أهمية إعادة تشكيل ثقافتنا بما يتناسب والمرحلة الحالية والمستقبلية .. @ أكاديمي