ظهر مفهوم رأس المال الفكري في تسعينيات القرن الماضي، وينسب هذا المصطلح إلى رالف ستير مدير شركة جونسون فيلي للأطعمة الذي يقول : " في السابق كانت المصادر الطبيعية أهم مكونات الثروة الوطنية، ثم أصبح رأس المال متمثلاً في المصادر الطبيعية والنقد والموجودات الثابتة، أما الآن فقد حل محلها رأس المال الفكري الذي يعد أهم مكونات الثروة الوطنية وأغلى موجودات الأمم" ويقصد برأس المال الفكرى تلك الفئة من البشر التى تملك الخبرة والمعرفة والقدرة الإبداعية والمواهب الفطرية التي تمكنها من دفع عجلة التقدم على المستوى الوطني، وهو ما يميز أمة عن أخرى بقدرتها على تحويل رأس مالها الفكري إلى قيمة من خلال ما تحدثه من إنجازات واختراعات وابتكارات في شتى المجالات . اتخاذ المعرفة طريقاً لتجاوز الكبوة الحضارية، وارتياد ركب التقدم يجب أن يعتمد على ثلاثة محاور : المحور الأول : يتمثل فى وسائل تنظيم اكتساب العلوم وتطويرها، خاصة العلوم التكنولوجية الحديثة، والمحور الثاني : يُعنى بربط متطلبات سوق العمل بنوعية التعليم من حيث الكم والتخصصات، المحور الثالث : يتمثل فى حق كل فرد في المجتمع فى الحصول على التعليم إن الاهتمام برأس المال الفكري ضرورة حضارية تفرضها التطورات العلمية والمعرفية والتكنولوجية التي يشهدها العالم، وتؤثر في الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والتربوية على وجه الخصوص.. إن رأس المال الفكري استثمار له عائد على المدى الطويل، ولكي يتحقق هذا العائد يجب أن تبذل من أجله كل الطاقات الممكنة . إن نقطة الانطلاق الأولى لتنميته على مستوى الدول، لابدّ أن تنبع من الاقتناع بأنه الأساس فى النهضة والتنمية، وأن يكون نابعًا باتساع من القمة والقاعدة على حد سواء، ونعني بالقمة النخب سواء أكانت حاكمة أم أكاديمية واعية، وأما القاعدة فتعني جميع الأفراد فى سن التعليم وفي سوق العمل. وبالطبع لن يكون كلّ هؤلاء من المبدعين، لكنّ خلق مبدعين ومفكرين سيكون أمرًا سهلًا إذا ماتوفرت البيئة الملائمة التى تَعني فى المقام الأول اتجاه المجتمع بكافة طبقاته إلى المعرفة وسيلة للتميز، والعمل على تجاوز الكبوة الحضارية التى يمرّ بها، التى من أبرز أمثلتها : الاستهلاك لا الانتاج، الاستيراد لا التصدير، التواكل لا المبادرة، التشبث بالقديم لا السعي نحو الجديد! ولاريب أن فكرة تنمية رأس المال الفكري في بلادنا ستصطدم ككل جديد بعوائق تحول دون ذلك ؛ تتمثل في خلل المنظومة التعليمية، والضعف الشديد فى التحصيل المعرفي الذي تقود مخرجاته إلى خلل ظاهر فيما يتعلق بالمواءمة بين سوق العمل ومتطلبات التنمية، ما أدى إلى ضعف إنتاجية الفرد، وانخفاض العوائد الاقتصادية والاجتماعية المتحققة من العملية التعليمية، كناتج طبيعي لكثرة الخريجين وقلة المقبول منهم فى سوق العمل . أمّا من حيث المضمون فيتمثل فى عدم قدرة النظام التعليمي الحالي على توفير المتطلبات الضرورية للأخذ بأسباب التقدم ؛ حيث تهيمن عليه الثقافة التقليدية التي أدت إلى خلق هوة أو منطقة عازلة بين المجتمع والمعرفة الحضارية والإنسانية، وأما الوسائل والأساليب فهي متخلفة كثيرًا فى المؤسسات التعليمية، ناهيكم عن المعلمين الذين تتلمذوا على الفكر التقليدي وافتقروا إلى التأهيل المعرفي الحضاري، فباتوا أكثر تشبثاً بالتقليد، فانعكس ذلك على أدائهم، إذ فاقد الشيء لا يعطيه! وتكفي نظرة واحدة إلى ما يُطرح في مواقع التواصل الاجتماعي لنعرف حجم الكارثة التي تهيمن على العقول، نتيجة للثقافة التي ترسخت في المجتمع منذ ثلاثة عقود بفعل الفكر السلفي الإخواني المهيمن، الذي يحاول بعضهم مستميتاً إعادة إحيائه. ولا شك ّ أنّ تعليمًا كهذا أدى ويؤدي إلى " الفقر الإبداعي " ويعني عدم وجود طاقات إبداعية في المجتمع، يمكن أن تبتكر أو تنتج أساليب عمل جديدة تأخذ المجتمع نحو مدارج التقدم والرقي في كافة المستويات! ويمكن أن نضيف إلى قائمة المعوقات، ضعف الرؤية المستقبلية لبرامج تنمية رأس المال الفكري، وعدم وجود منظومة إصلاحية تعمل جنباً إلى جنب مع المنظومة التعليمية، ونقصد بالإصلاحية تكييف النظم واللوائح والتعليمات لتسير في الاتجاه نفسه، حيث يمثل الموجود منها، وهو كثير، حجر عثرة أمام التقدم، خاصة فيما يتعلق بأسلوب عمل الجهات الرقابية المختلفة التى لاتعي أدوارها . يواكب ذلك أسلوب اختيار أصحاب القرار في الوظائف القيادية، وما يمكن أن تحدثه هذه القيادات من تغيير وتقدم إن كانت من المبدعين والموهوبين، أو عكس ذلك إن كانت من أصحاب القلوب الضعيفة التي تخشى اتخاذ القرار أو التوقيع عليه ؛ خوفاً من فقد مواقعها. إذن فإن فكرة تنمية رأس المال الفكري الوطني تحتاج كثيرًا من التأمل حيث تتشابك فيها كثير من المحدّدات والمعطيات، ذات العلاقة بالقناعات الذهنية للمجتمع في مستوياته كافة، لكنه أمر يحتاج من المخلصين والمهتمين والمؤهلين - لا المتقاعسين ذوي المصالح الضيقة، أو الأجندات الخفية - وقفة جادة ؛ إن أردنا أن ننهض لنجاري الدول المتقدمة في هذا المضمار. وبناء على ما سبق فإن التساؤل الذي لابد من طرحه هنا هو : هل يمكن بناء نظام رأس مال بشري للقرن الحادي والعشرين بأسلوب تفكير، وأطر تعليمية، وكوادر بشرية تنتمي للقرون الغابرة ؟ إنّ معالجة المشكلات لا تقتصر على كيفيّة تحسين العمليّات والأنظمة القائمة فحسب، فهذه المقاربة لن تحلهاّ أبدًا؛ لأنّ الأنظمة الموجودة بالية وعقيمة، وإصلاحها يستغرق وقتاً وجهداً، الأوْلى صرفهما نحو الجديد، بدلاً من ترقيع القديم الذي لن يترقع في ظل حراس شداد بقاؤهم رهين ببقائه، لذا لابدّ من بناء أنظمة وأساليب تطوير جديدة، والتفكير في تطوير رأس المال البشري على ضوء متطلّبات هذا العصر. إذن كيف نستطيع تعزيز قدراتنا الوطنية الشابة بتحويلها إلى مصدر قويّ لرأس المال البشري متسلح بأنواع جديدة من العلوم والمعارف والمهارات؟ بما أن الهدف الأساس من تنمية رأس المال الفكري هو إيجاد مبدعين ومفكرين فى شتى مجالات المعرفة النظرية والتطبيقية، فإنه يمكن تحقيق ذلك بتوفير البيئة الملائمة التى تبدأ حين يتجه المجتمع بكل أفراده وإمكاناته نحو المعرفة كوسيلة للتقدم، ويمثل التعليم حجر الزاوية فى منظومة المعرفة حيث يعده كثير من المتخصصين هدفًا ووسيلة في آن واحد، لذا يجب خلق منظومة إصلاحية تتمثل فى توفير بيئة حاضنة، تبدأ من تكييف القوانين والنظم واللوائح والتعليمات لتتناغم مع المنظومة الجديدة، وتوجيه كافة الطاقات والإمكانات المادية والبشرية نحو الارتقاء المعرفى، ويتطلب ذلك التخلص ما أمكن من الحرس القديم الذي يعيق تحقيق التقدم بالتمترس خلف شعارات لم تعد ملائمة للعصر ! كذلك ينبغي الاطلاع على تجارب الدول التي أخذت بأسباب التقدم المعرفي مدخلاً للتقدم الشامل فى مختلف نواحي الحياة، والاستفادة منها، وذلك فيما يخص السياسات أو الخطط في المستويين الإستراتيجي والتكتيكي، في المناهج وطرق التدريس ووسائل إعداد المعلمين وبناء المؤسسات التعليمية وكوادرها على اختلاف مهامها. إن اتخاذ المعرفة طريقاً لتجاوز الكبوة الحضارية، وارتياد ركب التقدم يجب أن يعتمد على ثلاثة محاور : المحور الأول : يتمثل فى وسائل تنظيم اكتساب العلوم وتطويرها، خاصة العلوم التكنولوجية الحديثة، والمحور الثاني : يُعنى بربط متطلبات سوق العمل بنوعية التعليم من حيث الكم والتخصصات، المحور الثالث : يتمثل فى حق كل فرد في المجتمع فى الحصول على التعليم الذى يجعل منه قيمة إنسانية قادرة على العمل المنتج، وعلى توجيه سلوكه للتكيف مع نفسه ومع مجتمعه، ويدخل في هذا المحور إلزامية التعليم في مراحل التعليم العام . أما المهارات المطلوبة لهذه الأعمال التي ترتكز على المعرفة، فمنها التخطيط الإستراتيجيّ والعمل ضمن فريق، والتحليل الدقيق للمخرجات، وعرض الأفكار، والتكنولوجيا المتفوّقة، وأدوات إدارة الشبكة الاجتماعيّة، والإبداع والابتكار. فبناء هذه المهارات وضمّها إلى قدرات رأس المال البشري ستوسّع على نحو كبير قدرات القوّة العاملة ومرونتها. ولتحقيق ذلك لابدّ من توفير الموارد التي يحتاجها رأس المال الفكري من إمكانات تقنية متقدمة ولوجستية وبشرية ومادية، وتمكين العاملين المتميزين من حضور المؤتمرات واللقاءات العلمية، وإحضار من يمنحهم مزيداً من المهارات والمعلومات في مجال اهتمامهم، كذا توفير الأدوات والمعامل والميزانيات اللازمة لتنفيذ الاختراعات والأفكار الإبداعية، وتكون حصيلة هذا التقدّم إنشاء موارد جديدة ذات قيمة اقتصاديّة واجتماعيّة. كما ينبغي التركيز على بناء صناعات القرن الحادي والعشرين ؛ وذلك بالاهتمام بعلوم الحياة والصحّة، وعلوم التكنولوجيا الصغيرة / والطاقة البديلة المتجدّدة والمستدامة / وتكنولوجيا المياه الصافية / والوسائل الرقميّة / والزراعة المتقدّمة / والهندسة المعماريّة / وتطوير البرمجيّات / وعلوم التربية المتقدّمة والتكنولوجيا الخضراء .. إلخ. أما الإجراءات التي تساعد على تحقيق ذلك في المستوى الوطني فمنها : إنشاء مجالس تُعنى بصناعة كفاءات وطنية لبناء رأس مال فكري وطني يتناغم والتنمية الوطنية في صورها كافة، وبنبغي أن تضمّ هذه المجالس خبراء في قطاع الصناعة، والتربية، والتطوير الحكومي والاقتصادي، على أن يكرّسوا جهودهم الكاملة لخدمة أهداف المجلس ويكونوا مسؤولين عن النتائج، وتضع هذه المجالس رؤية لبناء القدرات البشريّة، والإستراتيجيّات وخطط التنفيذ، والعمل على إعادة تأهيل أفراد المجتمع والمؤسسات التعليمية والتدريبية وفق آفاق جديدة، فى ظل فلسفة أقرب ما تكون إلى مدخل متقدم للمعرفة فى أوسع معانيها، حتى لا نجد أنفسنا فى معزل عما يدور حولنا من تغيرات وتحولات سريعة بعد أن فاتنا الكثير، واختيار القيادات الإدارية المستقبلية، ووضع الخطط اللازمة لتنمية أدائهم القيادي وتطويره. إن التخطيط لا يتعلق بالتنبؤ بالمستقبل ولا بالسيطرة عليه بقدر ما يتعلق بالتعامل مع المستجدات، وإذا استطعنا أن نتعامل بدقة مع التطورات المستقبلية، فسوف ننجح ونسهم في تحسين مستوى الأداء المؤسسي ودعمه وإسناده بقيادات ناجحة وفاعلة. وهنا لا يفوتني أن أستشهد بما قاله بيل غيتس لإثبات أهمية الأفكار وخطورتها: (لستُ أخشى منافسة أي شركة نظيرة في العالم، إنما أخاف أن تتولد فكرة في ذهن ميكانيكي في مرآب فى زاوية مهملة من العالم، تتجاوز أفكاري وتتفوق عليها)..