معظم الذين يتحدثون اليوم عن الأزمة السياسية الراهنة في مصر، يشيرون إلى كارثية المشروع التسلطي للإخوان، خاصة وأنه مشروع مخادع، يحاول الوصول إلى أهدافه من خلال التوسل بالإرادة العامة للشعب، أي من خلال الديمقراطية ذاتها . هؤلاء المحللون يتحدثون عن هذه الدكتاتورية الإخوانية ؛ وكأن المقابل (= المعارضة) مقابل ديمقراطي؛ حقيقة وواقعاً الإنسان هو نتاج وعيه، بل هو وعيه متجسداً في الواقع. وتبعاً لهوية الوعي تتحدد هوية الوجود. كما أن الوعي- بصورة ما-هو نتاج وجود الإنسان في الواقع (بكل أبعاد وجوده المختلفة (أو- بعبارة أدق- هو نتاج علاقته الجدلية مع الواقع . لكن، ما يهمنا هنا هو تلك العلاقة العميقة- تسبيبا وتعليلا- بين هذا الوعي المتحقق / المُنجَز ومُحفّزات السلوك الإنساني . واضح أن العلاقة حتمية بقدر ما هي عميقة. فإذا كان وعي الإنسان محكوما بتصورات تقليدية متخلفة، أصبح الإنسان تقليدياَ مُتخلفاً، وتصرف- أو أراد إرادة غير واعية- أن يتصرف على هذا الأساس، وإذا كان الوعي إبداعيا / ابتداعيا متحررا؛ فلا مناص من أن يتصرف الإنسان بمقتضى التحرر والابداع / الابتداع . وكذلك الأمر عندما تكون مكونات الوعي صراعية افتراسية- مقابل أن تكون تعاونية تراحمية- ؛ فهي تفرض وجودها على الإرادة السلوكية (وليس على السلوك ضرورة ؛ إذ قد تصطدم الإرادة بتحديات الوجود الخارجي ؛ فلا تستحيل سلوكا)، وتحسم توجهات الخيار، ليس- فقط- في تحديد نوع الفعل ودرجته ابتداء، وإنما في طبيعة الاستجابة له (= من حيث تلقيه وتصوره) أيضا . لكن، بمقدار ما الإنسان مدفوع بمُكوّنات وعيه (= وجوده الداخلي)، بحيث تحدد له دوافع السلوك وغاياته، فهو- في الوقت نفسه- محدود- بل ومقموع- بحدود وجوده المادي الذي يتموضع فيه (= الوجود الخارجي) . فهذا الوجود المادي (ويبدأ هذا الوجود من ضرورات الجسد التي تختلف من شخص لآخر، وصولا إلى ظروف البيئة المادية / الطبيعية، ومرورا بالنظام السياسي، والقانوني، والأخلاقي / القيمي، والاجتماعي ..إلخ)، له شروطه التي لا يستطيع الإنسان أن يتحلل منها ؛ حتى وإن استطاع أن يتكيف معها، حسب ما تقتضيه قدرته على التكيف والمواجهة من جهة، وحسب ما تفرضه تحديات هذا الوجود من جهة أخرى . وعلى هذا، فالإنسان- أي إنسان- كان- ولا زال- يعيش صراعا أزليا بين هذين الوجودين (= الوجود الداخلي والوجود الخارجي)، مع اختلافات واضحة في نوع ودرجة الصراع، إذ قد يطلب الوعي- مثلا- ما لا يستطيعه الجسد، أو حتى بعض القُوى الملحقة بالجسد (والجسد وجود خارج الوعي) . وبصورة مُبسّطة نستطيع القول بأن هذه هي الحال التي عبر عنها المتنبي بالنفوس الكبار التي تعبت في مُرادها الأجسام . وكما قد يكون الجسد- بحدوده وإمكاناته ومتطلباته- هو الوجود الخارجي الذي يحتدم صراع الوعي معه، فالبيئة (بكل أشكالها : الطبيعية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية ..إلخ) هي التي تشكل التحدي الخارجي الأكثر وضوحاً وحدة في الغالب، بل والأبعد أثرا فيما يمكن أن تتركه على حياة الإنسان في مستويات السلب والإيجاب؛ إذ الإنسان يقتنع- في معظم الأحوال- بمقتضيات الشرط الجسدي؛ لأنه يعتبر حدود الجسد قدرا أزليا غير قابل للتغيير؛ مقارنة بالحدود التي تفرضها البيئة الخارجية المتغيرة بحكم طبيعتها، واللاقدرية بحكم كونها المجال الحيوي / الطبيعي للفعل والتغيير . إن هذا الصراع موجود- بدرجة ما- في كل شؤون الحياة . ولكنه بارز وحاد ومؤثر في علاقة الإنسان بكل ما هو عميق الأثر في تحديد نمط حياته من جهة، وبكل ما هو متغير وذي طبيعية اختيارية من جهة أخرى . فالإنسان ككائن ثقافي يريد أن يمسك بمصيره؛ لأنه يعي قدرته على صناعة قدره؛ رغم التفاوت الكبير الذي يحدث في هذا المجال . لذلك تجد الإنسان في صراع دائم- حتى وإن كان خافتا أحيانا- مع عاداته وتقاليده، وفي صراع أشد مع أنظمته وقوانينه، وفي صراع- أشد من هذا الصراع وذاك الصراع- مع واقعه / محيطه الاقتصادي الذي يراه قابلا للتغيير والتبديل من جهة، وغير مرضٍ- في كل الأحوال- من جهة أخرى . هذه هي صورة الواقع، وهذا هو واقع الإنسان . لكن، ما علاقة كل هذا بالإخوان والديمقراطية في مصر، أقصد : بهذه التجربة الراهنة التي تبدو وكأنها اليوم تشعل فتيل أزمات ؛ بدل أن تطفئها؟ أعتقد أن هذا الصراع بين الداخل والخارج، وبين الشكل والمضمون، هو جوهر أزمة الإخوان مع الديمقراطية، كما هو جوهر أزمة الفرقاء السياسيين مع الإخوان، ومع الديمقراطية أيضا . عندما نحاول رؤية الأزمة من كل أبعادها، تبدو لنا (= المشكلة / الأزمة) وكأنها ليست إخوانية خالصة، حتى وإن بدت كذلك في بعض مساراتها . أي أن الإخوان- من حيث مبدأ تموضعهم المادي الخالص في الواقع السياسي- ليسوا أصل المشكلة، كما أنهم ليسوا كل المشكلة، بحيث يمكننا أن نقول مطمئنين : لو خرج الإخوان من حلبة الصراع السياسي ؛ لسارت عجلة الديمقراطية إلى حيث (يحلم الحالمون) !. معظم الذين يتحدثون اليوم عن الأزمة السياسية الراهنة في مصر، يشيرون إلى كارثية المشروع التسلطي للإخوان، خاصة وأنه مشروع مخادع، يحاول الوصول إلى أهدافه من خلال التوسل بالإرادة العامة للشعب، أي من خلال الديمقراطية ذاتها . هؤلاء المحللون يتحدثون عن هذه الدكتاتورية الإخوانية ؛ وكأن المقابل (= المعارضة) مقابل ديمقراطي؛ حقيقة وواقعاً، بل وكأن الواقع- بمجمل مكوناته- يتحرك بآلية ديمقراطية واثقة الخطى، بينما الإخوان هم الاستثناء الاستبدادي النشاز! طبعا، ما يشير إليه المحللون السياسيون الذين يؤكدون على المشروع الإخواني التسلطي صحيح في خطه العام (أي دون مساءلة التفاصيل التي تحتوي على ما هو أكثر إثارة من المشروع الاستبدادي للإخوان)؛ شرط أن لا يعني هذا تبرئة الآخرين . الإخوان متسلطون، واستبداديون، وغير ديمقراطيين، بل ولا يستطيعون- حتى لو أرادوا- أن يكونوا ديمقراطيين، ومؤمنون بالحكم الشمولي المنافي لكل مبادئ الديمقراطية، ومستعدون لتقديم كل مبادئهم الأساسية- فضلا عن المبادئ التي يتوسلون بها جماهيرياً- قرابين من أجل احتكار السلطة، كل السلطة، وإلى الأبد. هذه حقيقة يعرفها الجميع، بمن فيهم الإخوان أنفسهم؛ حتى وإن لم يعترفوا بها، ولا يرتاب بها من يعرف الإخوان جيدا . ولكن ثمة حقيقة أخرى، وهي أن كل الفرقاء السياسيين المعارضين كذلك، ولا يمنعهم من ممارسة ذات التسلط الإخواني إلا القلة والضعف ؛ ولولا القلة والضعف لمارسوا من الاستبداد ما يفوق الاستبداد الإخواني . هذا ليس رجماً بالغيب، بل كل ما تقوله المعارضة- المتواضعة فكرا وسياسة -، وما تفعله، يؤكد للجميع أننا أمام وعي سياسي استبدادي، نابع من ثقافة استبدادية عامة ؛ رغم كل التأكيدات العلنية التي تتبجح بإدانة الاستبداد. إذن، أنت أمام واقع غير ديمقراطي، بل متأبٍّ على الديمقراطية، يعمل الإخوان فيه، ومن خلاله . والإخوان يدركون ذلك، ويعملون على ضوء هذا الإدراك . فمثلا، عندما أصدروا البيان الدستوري الذي يتضمن تحييد- إن لم يكن هيمنة على- القضاء، كانوا يعون أن دعوى استقلالية القضاء، وخاصة استقلاله عن حيثيات التجاذب السياسي الراهن، مجرد أكذوبة لا يصدق بها إلا المغفلون. من يعرف الواقع المصري كما هو- وليس كما يحب أن يُعلن عن نفسه- يدرك أن كل من يحتل منصبا مُهما، في أي مجال، ليس مستقلا بأي حال ؛ لأنه مرتبط بشبكة من المصالح المعنوية والمادية، المباشرة وغير المباشرة . وتزداد درجة الارتهان للتجاذبات السياسية بقدر أهمية المنصب. والقضاء ليس بدعاً من ذلك، بل هو في صميم المعترك السياسي (بالمفهوم الواسع للنشاط السياسي)، حتى وإن لم يصرح بذلك، بل حتى وإن صرح بالنفي، وأكد النفي بأغلظ الأيمان. هذا واقع يدرك المصريون حقيقته؛ بقدر ما يعي كل فصيل سياسي استحقاقاته . ولهذا كنا نسمع بعد صدور البيان الدستوري ما يؤكد فهم الإخوان لهذا الواقع . فبعض رموز الإخوان كان يصرح بعبارات من مثل : " يجب أن نتغدى بهم قبل أن يتعشوا بنا "، وغير ذلك من التصريحات ذات النفس الصراعي التي تؤكد أن المعركة السياسية ليست محدودة في حدود الشكل الديمقراطي، بل هي معركة شاملة، وتقع حتى فيما هو خارج نطاق الفعل السياسي المباشر، إنها تجتاح كل المجالات التي تمتلك شيئا من القوة المادية أو الرمزية المؤثرة . فكل شيء يجري توظيفه في هذه المغالبة، وكل الفضاءات مستباحة لذلك؛ مهما كانت صورتها في المخيال العام، أو حتى في التصور القانوني، فضاءات للنزاهة والتجرد والاستقلال. لا أحد خارج تجاذبات الصراع السياسي في مصر، لا الأزهر، ولا زعماء الجماعات التقليدية، ولا الجيش، ولا القضاء، ولا حتى منابر القداسة التي تتلو بياناتها السياسية في أيام الجمع أو في أيام الآحاد. لا شيء يجري بمبادئ ديمقراطية خالصة. كل شيء يجري وفق إرادات القوة وشروطها. عندما تم حل البرلمان، وبحكم قضائي، لم تكن رهانات السياسة- بكل ألوانها الفاقعة آنذاك- بريئة من هذا (الإجراء)، أو هذا (الحكم) إن شئت ! وكل البيانات الدستورية في المرحلة الانتقالية كانت تجري لحسابات سياسية تحاول رسم معالم خط المصالح القادمة . والتقديم والتأخير آنذاك لم يكن يتم إلا وفقاً لهذه الحسابات التي لم تكن- رغم مراوغتها- خارج نطاق التكهن السياسي . الجميع في مصر يعرف هذا الواقع، والجميع يعمل وفق ما يعرف، وليس وفق ما يُصرّح به في هذه المناسبة أو تلك . التصريحات ليست إعلانا عن خطة عمل، كما أنها لم ولن تكون مبادئ حاكمة أبدا لأفعال الناطقين بها، وإنما هي جزء من المراوغة السياسية التي تشتغل عليها الفصائل المتناحرة، حيث يكون الإخلاف والكذب والتلون وتبديل الأقوال وتبرير الأفعال فعلًا سياسياً بامتياز . كل هذا يشكل واقعاً سياسياً خارجياً يخوض الإخوان صراعا مريرا معه . وفي الوقت نفسه يخوضون صراعهم المكتوم مع مكونات ثقافتهم الداخلية، تلك الثقافة التي امتدت لعقود وهي تؤمن إيمانا راسخا أن الديمقراطية كفر بواح، وأن الوطنية الجغرافية جاهلية محضة، جاهلية تقترب- بالمتماهي معها-من كفرية عابد الأوثان . ليس من السهل أن تنتقل جماعة من تصور أن الديمقراطية كفر، إلى الموقف المضاد: إلى الإيمان بها إيماناً راسخاً يقود إلى التضحية بالمصالح الخاصة، الفردية والجماعية، من أجل ترسيخها في الواقع وفي الوعي. هذا غير ممكن، لا في مسار العقل ولا في مسار الواقع. فإذا أضفنا إلى ذلك صعوبة أخرى، وهي أن النظراء السياسيين الذين يشكلون معالم المشهد السياسي الذي يُطالب الإخوان بأن يعملوا من خلاله، لا يؤمنون بهذه الديمقراطية حقيقة، ولا يقبلون بها إلا عندما تكون أداة في أيديهم، أدركنا أن الإخوان يشعرون وكأنهم مطالبون بنزاهة فوق المعتاد، نزاهة مرهقة وباهظة الثمن جدا؛ لأنها تتصارع مع مكنونهم الثقافي من جهة، وتتصارع مع الواقع اللانزيه من جهة أخرى . لهذا السبب، يسعى الإخوان إلى الإبقاء على الشكل الديمقراطي، بل وإلى تقويته وتضخيم دوره المعلن (مع تطويعه بالصراع الجدلي معه؛ ليتوافق مع الطموح التسلطي)، وفي الوقت نفسه يسعون إلى التوافق مع المضمون اللاديمقراطي المتضمن في ثقافتهم الخاصة، أو المتضمن في الواقع الذي يبدو وكأن إرادة الغلبة (بكل الوسائل!) هي التي تتحكم فيه . ولا شك أن الصراع بين هذا المضمون وذاك الشكل يتحول إلى لعبة يجيدها الإخوان، وقد يتسلى بها المجتمع حينا (كجماهيري امتهن الفرجة والابتهاج بمجرد الفرجة)، ولكن يصعب تحديد إلى أين ستنتهي اللعبة بمستقبل اللاعبين، والأهم ؛ إلى أين ستنتهي بمستقبل الأجيال..