أخذني هذا الذي كان مشاكساً شقياً ومرهقاً وقابضاً على الوجع قبل أن يتأقلم ويتصالح مع الداءات والتعاسات من منطلق قناعات بأن كلّ الأحلام والآمال، وما ساد في زمن الستينيات من وعود وشعارات ومشاريع نهضوية وتنويرية ووحدوية كان وهماً شربناه كجيل، وأطعمتنا مراراته أجهزة الإعلام البائسة والتي كانت تمارس الثرثرة البلهاء، وتخدّرنا بمشاريع الوحدة العربية من المحيط إلى الخليج، وتبشرنا - استهلاكاً - بعصر التنمية والانعتاقات من توحش الجهل والفقر والمرض، وتكريس العدالة الاجتماعية سلوكاً وممارسة وثقافة شاملة عند المؤسسات الحكومية وصناع القرار في قيادة العسكر. كان ذلك الشقيّ الجميل من جيلنا الذي أُثخن بالخيبات، ومزقته قساوة الهزائم وضياع الحلم، وأنبتت قلقهَ الشعاراتُ الثورية التي كان العسكر يسوقونها "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة" وأناشيد "بلاد العرب أوطاني" وما يدور في فلكها من تخدير للشعوب، وتصنيم للزعيم الواحد، وتكريس لسلطة الحزب ليتفرّغ الانتهازيون والوصوليون واللصوص والهوامش والعاهرون لسرقة الثروات، واستعباد الإنسان وإدخاله في جحيم البحث عن رغيف الخبز، ودوامة إطعام الأفواه المفتوحة للقمة من الأطفال، ومشقات توفير الدواء للأجساد المسكونة بالأوبئة والأمراض. كان صالح عبدالرحمن الصالح من أروع المثقفين في تلك المرحلة التي عشنا أحلامها وأكثرهم حضوراً، كان ناقداً أدبياً، وشاعراً حقيقياً يغوص في هموم الإنسان ومراراته وعذاباته ويتفاعل مع قلقه وانهياراته، ويرسم لوحات شعرية نابضة بأحاسيس تفاعلية مع الخوف والرجاء، وهواجس الموت والحياة، وما يعطي الإنسان قدرة على المواجهة، إلا أن ذلك التوهج اغتالته يد الهزائم التي أنتجت ضياعاً ويأساً وانكساراً أدخل الإنسان العربي في أتون الجنون. صحونا ذات يوم وقد أرهقتنا المأساة، وكنا شهوداً على "تحطم الطائرات عند الفجر" وهي في مرابضها في مطارات دول المواجهة، التي بررت فجورها وفسادها وعجزها بمصطلح "النكسة"، فلم يكن أمامنا إلا أن نلجأ إلى الفرح نحاول اصطياد لحظاته وألقه، وما ينتجه من صلابة وقدرة على اقتحام الحياة بشكل متوازن، واخضاع الزمن كعامل بقاء يحرّض على الخلق والإبداع والتماهي مع الطموحات والرغبات التي كادت أن تموت بفعل شراسة الخيبات. ذات ليلة لندنية شتائية كانت البروق تضيء السماء وتشق السحب المتراكمة كما ليل أسطوري، وكانت السماء تمنح أمطاراً باذخة السخاء، مترفة الفرح، تذكرتُ ساعتها الجافي والطوقي والشوكي والملقا، وشعاب نجد التي يكون المطر فيها أشهى وأحلى وأكثر تحريضاً على تعاطي الفرح والدهشة والمتعة كما تكون المتعة، وسافرتُ بروحي ساعتها إلى هذه الأماكن غيمة تطوف على كهوف جبالها، وأماكن غدرانها، واستدعيت سامرية من كلمات صالح الصالح وغنتها ابتسام لطفي كلوحة من أحلى الغناء السامري . "البارحه ساهر والنوم ماجاني واخيل برقٍ يلوح وهلّت مزونه برقٍ له أزود من العامين ماباني ولا تكسّر ظلام الليل من دونه روي النفل منه رويت كل الاوطاني ومن أول أمسٍ على الجافي يطرّونه ياميت القلب يكتبني ويمحاني والمطرق اللي على كبدي يحطونه" تألمتُ أكثر، واستبدت بي حالة من الوجع والتفتت، إذ هُزمنا في أحلامنا، ويُصادر فرحنا الآن بشراسة وظلامية، وتُسرق منا الابتسامات، ويجتاح أرواحنا التصحرُ والجفاف بفعل الأوصياء على المجتمع، حتى إن أفراحنا وأعيادنا تحولت إلى مايشبه المآتم فلا مكان لصوت "طار" أو "شيلة" سامري. هذا جنون..