ساعات عديدة قضيتها مع شخص يعشق القمامة في العاصمة السيرلانكية، كولومبو, ويعيش بين أكوام أوساخها ويرفض مغادرتها، كان ذلك بصحبة مترجم عثرنا عليه بالقرب منه يتقن العربية، الأمر الذي سهَّل مهمتنا في التعامل مع هذا الشخص "التعيس" الذي اصبح محط انظار وتندر المارة، ويرفض (فيريرا بومون) الذي أمضى سنوات عديدة هناك، بحزم مغادرة المكان الذي يعتبره الأنظف والأجمل في العالم، كانت أسئلتنا سريعة جداً اعتمدنا فيها على مترجم كان يعمل في السعودية قبل عدة سنوات تعلم خلالها العربية واتقنها بشكل جيد، سبب وجودي تلك الساعات في ذلك المكان، يعود إلى زيارة لي في إحدى الدول الآسيوية، حيث روى لي أحد الأصدقاء قصة عابرة عن شخص في دولة آسيوية أخرى، مجاورة، يعيش بين أكوام القمامة ويرفض مغادرتها أو استبدالها بأي مكان .. وقررت التوجه إلى ذلك البلد والبحث في عاصمتها عن اكوام القمامة المنتشرة هنا وهناك، وما ان وصلنا هناك حتى بدأت رحلتنا للبحث عن تجمعات القمامة إلى أن وصلنا إلى ضالتنا وهو المواطن السيريلانكي (فيريرا بومون)، ودار بيننا حديث طويل استغرق ساعات، لنكتشف من خلال حوارنا إصرار فيريرا بومون على أن يعيش كل ما تبقى من عمره بين القمامة والفضلات على قارعة إحدى طرقات العاصمة السيريلانكية كولومبو، وعلى بعد امتار من قلب العاصمة وابراجها الشاهقة وفنادقها الفخمة وعلى مقربة من ساحاتها الخضراء حيث عرفت بالطبيعة الخلابة.. «فيرارا» يقضي وقته وسط «الزبالة» على بعد أمتار من أبراج كولومبو الشاهقة والطبيعة الخلابة بدأ حديثه معنا بالقول: أنا لا اعترف بالحدود ولا الانظمة والدول، ولو كان باستطاعتي التنقل لعبرت كل تلك الحدود، فمن يقرر العيش بين اكوام القمامة لا يخضع لقوانين البشر وحدودهم الوهمية والمصطنعة، كل مكان فيه مزابل وقمامة من حقي وحق امثالي (التعساء)، وتابع بعد طول عناء وتردد: هنا لا أحتاج احداً، يمضي اليوم تلو اليوم دون ان أشعر بألم او معاناة أو قذارة أو احسب الوقت، فكل ما حولي نظيف وأخشى من قيام المارة أو الحكومات بتلويثه وتدنيسه، ونسأله عن أهله وذويه، فيقول: ما تبقى من أهلي يفرضون علي كل عام أن اغتسل وان ابدل ثيابي، فأبدو في الايام الأولى وسخاً وقذراً وثقيلاً وتفوح مني روائح لا أطيقها، لكن مع الأيام أعود إلى وضعي الطبيعي منسجماً مع كل ما حولي، وقال: أخشى من الزوار في الليل وفي النهار، وفي أي وقت لأنهم لا يأتون إلى هنا إلا ليعبثوا بمملكتي الخاصة بي في هذا المكان الذي لا أحد ينازعني عليه سوى الجرذان في المساء والذباب في الصباح!، وأنا لا أغادر المكان أبداً هذا هو بيتي ومقر عملي ومأواي، ففيه أجد ذاتي وأحلق في الدنيا أطل عليها من الأعلى، وأضحك، وأحياناً كثيرة أبكي وأتألم لكني لا أشعر أحداً بذلك. يسكت عدة دقائق ويحدق في الأفق، وفجأة يرد علينا: كثيراً ما خضت جدالاً مع عمال البلدية الذين يريدون أن يعبثوا بالمكان ويزيلوا هذه الثروات والأدوات والأيقونات التي تملأ المكان، ولو كان في جسدي بقية قوة لضربت كل من يحاول العبث بمملكتي، لكني أكتفي بنهرهم والصراخ بوجوههم وشتمهم. ويؤكد ان النظافة التي نعرفها ليست حاضرة في قاموسه ولاتعنيه ابدا، والمرض والصحة والدواء مفاهيم لا علاقة له بها ولا يريد ان يعرف عنها شيئاً فمثل هذه الأشياء التافهة تزهق روحه وتتعب حلمه وتنفره من المتعة في عالمه الخاص وهو متمسك بعالمه ولا يريد من أحد أن ينغص عليه دنياه، فهذا المكان هو الأفضل والأنظف والأجمل في العالم، ومن لا يعجبه لا داعي لحضوره الى هنا، " فأنا لا أدعو أحداً لزيارتي ولا أريد من أحد أن يقوم بزيارتي سواء كان فرداً ام مؤسسة ام جماعات أم حكومات "، وتابع: " كل طقوسي وممارساتي اليومية تتم هنا في هذا المكان الذي لا يرى الآخرون فيه غير القذارة والاوساخ لكنه أجمل وأنظف منهم". ويقول (فيريرا بومون): " أنا أعيش بين أكوام وحاويات الزبالة منذ سنوات " ، وليس لديه مأوى ، ولا من يتبناه ويرعى حالته المأساوية، ويعيش على فضلات القمامة التي ترميها الناس عليه أو بجانبه، كما أنه يستظل بجانب شجرة ، تحميه من المطر ومن حرارة الشمس، ولا يدري كم من الأيام والسنوات مضت على وجوده في هذه الدنيا، لكنه أكد لنا أنه متزوج ولديه بنات متزوجات أيضاً.، ولايحمل اي ورقة رسمية أو ثبوتية ولايعرف تاريخ ميلاده. كثير من المارة قالوا لنا إنه معروف بصفته أتعس رجل في العالم. وحقيقة، لا نستغرب أن نجد متسولاً على قارعة الطريق، لكن ان يقابلك هذا المشهد في قلب العاصمة"كولومبو" وهو يحتضن الزبالة في شارع "الريل" على كورنيش البحر، فهو مدعاة للتوقف والسؤال، وكانت رائحته تزكم الانوف، فهو لا يعرف النظافة ولا يستطيع إليها سبيلا، ملابسه رثة جدا وقديمة لدرجة الاهتراء، ولا مجال لتبديلها إلا مع الموت كما يقول، فالزيوت والأوساخ تتقاطر من رأسه حتى اخمص قدميه التي تشهدان حالة من التشقق والتآكل لا مثيل لها. سألناه: كيف يغتسل أو يبدل ملابسه، يرد علينا: تأتي بناتي كل عام، يقمن بتنظيفي وتبديل ملابسي مرة واحدة كل عام، وكذلك يقصون شعري، عرضنا عليه ان يتبناه احد لكنه رفض بشدة، وقال: عشت وسأموت بين القمامة التي احتوتني بعد ان طردني الآخرون. ودعناه دون ان نحصل على إجابة منه عن حالته وما الذي دفعه العيش هنا بين اوساط القمامة وروائحها التي تزكم الأنوف. وبدورنا نسأل: هل هو الوحيد في هذا العالم، وهل هم كثر أمثاله، ولماذا لم يصل إليهم أحد، يستمع لهم ماذا يريدون وكيف يعيشون، وهل هم راضون عن حالهم ويعرفون ما الذي ينقصهم، وهم المحتاجون لكل شيء في الحياة كما يبدو من المشهد العام له ولأمثاله "التعساء"، ما يستدعي السؤال عن دور المنظمات العالمية والمؤسسات الإنسانية الدولية في المجال الإنساني والخيري والمدنيين ومبررات عدم وصولها لأمثال (فريرا) الأتعس بالعالم كما اطلق عليه هذا الاسم.. الذي يقضى كل وقته في القمامة ويفتش عن قوت يومه في فضلات فنادق الخمس نجوم التي لاتبعد عنه سوى بضعه امتار. فيريرا تحته القمامة وفوقه ابراج بلاده الشاهقة اتعس رجل في العالم وعلي القحيص طبيعة سيريلانكا الخلابة التي لم تنتشل فيريرا من القمامة