بدأنا في الجزء الأول بمقدمة وأمثلة تدلل على أن المثل الشعبي ركيزة من ركائز الأسلوب الأمثل في إيصال وجهة النظر بشكل أسرع وكذلك في مجال النقد والتوجيه، وكذا طرح الرأي والتمهيد لسماع الرأي المخالف والعرض الساخر أحيانا، ونكمل حول المثل الشعبي لكونه اختصارا وخلاصة لموقف مماثل بغرض الفائدة وكسب الوقت في إيصال الفكرة، ونخصص هذا المقال للإشكال الذي يكتنف المثل الشعبي؛ لأن ظاهر بعض الأمثال الشعبية يأتي مرفوضا عند سماعه أول مرة من دون تبصر، أو يتم الاعتراض على مضامينه، وذلك لعدم فهمه الفهم الكامل وذلك أمر طبيعي فهو يأتي معزولا عن قصته الأصلية مبتورا منها، وهي في زمن غابر بعيد، ولهذا يبدو لبعضهم أن هناك تضاربا في توجيه المثل الشعبي وبنيته ومقاصده حينما يدعو لشيء ثم يعارضه أو يكون هداماً، والصواب أن حالة المجتمعات تتبدل مع الوقت، والأمثال كذلك تتجدد بحسب ظروف الحياة لتواكب مثل هذا التحول. وقد يقلل بعض الناس من قيمة المثل وصدقيته، أو يتهم بعضا بأنه رسالة سلبية ضارة، أو مثبط محبط، أو محرض على أمر ما، أو غير صحيح، أو لا يتوافق مع حالة من الحالات... الخ. ونحاول هنا أن نستعرض بعض الأمثال الشعبية التي لا تحتمل الاعتراض وأخرى يمكن أن تكون عرضة للتقليل منها وتخطئتها والاعتراض عليها، وهذا الاعتراض أو التخطئة لا تعدو أن تكون وجهة نظر خاصة بصاحب الرأي حولها فمثلا: «الأول ما خلي للتالي شيء» قد نقول إنه قول خاطئ، ففيه إشارة إلى قفل باب الإبداع والابتكار والكشف ومزيد من الإضافة للرصيد البشري من العلوم والمعارف ومثله : «اللي فيه طبع ما يخليه» أو: أبو طبيع ما يخلي طبعه» فظاهره السلبية، والحقيقة أنها لا تحمل السلبية لأنها في الأصل تحث على المبادرات في التأسيس وعدم التأخير، فلتكن أنت الأول لمن بعدك، ولتكن ممن يحافظ على طباعه منذ البداية حسنة لا سيئة. ويعتقد أن الأمثال الشعبية تشكل نمطاً يتحكم في اتجاه المجتمع وعاداته ومفاهيمه ومعتقداته فتؤثر فيه، والواقع أنها نتاجه ذلك المجتمع ومتولدة منه فهي سجل لتلك الاتجاهات وتعكس لنا عاداته ومفاهيمه ومعتقداته أيضا فمن الأمثال نفهم الكثير من ثقافة المجتمع وطبيعته والسائد فيه، بل هي كشف وسجل توثيقي مهم عبر التاريخ. مثل: «إلى جت العلة من البطن وين تجي العافية» والمقصود بها مشاكل القرابة، و«من قرصته الحية خاف من الحبل» يعني أن الحذر جاء بعد الخوف، و«من كبر اللقمة غص» مثل يدعو للقناعة، و«اللي ما يعرف الصقر يشويه» يعني عدم مؤاخذة المخطئ والجاهل والتماس والعذر و المبرر له. ومن الأمثال التي يمكن أن يشكل ظاهره مبررا للاعتراض عليه «الباب اللي يجيك منه ريح سده واستريح» ويواجه بانتقاد كبير من جهة كونه لا يدعو لعمل إيجابي فاعل بل يشجع على الانسحاب، وهذا غير صحيح فالحكمة تتطلب قطع طريق الأذية كما نقول «اترك الداب وشجرته» يعني إذا كنت حطاباً ورأيت ثعباناً في شجرة فلا تصر على قطع تلك الشجرة وكأنه لا يوجد سواها، ففي البر كثير من الأشجار غيرها، وكذا باب الشر والأذية سده أسلم لك وأكثر راحة من مكابدته، فالحياة أحيانا تتطلب هذا. ومن الأمثال ما يكون معناه محمولا داخله ومضمنا عباراته، وليس بشرط أن يكون محلي ومستخدم في المجتمع لأنه يفهم من مكوناته مثل: «زي القنفذ لا ينحضن ولا ينباس» فهذا مثل شعبي يحمل معناه في مضامينه ويمكن أن يستوطن في أي مجتمع، فالقنفذ كله أشواك ويتكور على نفسه فليس من السهل حمله باليدين، وهذا يضرب لمن كله مشاكل ولا يمكن التعامل معه ولا طريق لفتح صداقة وتقارب معه. ومن الأمثلة التي تحمل داخلها معانيها بلا اعتراض عليها : «جينا نحذي الخيل، مدت الخنفسانه رجلها» أو مد الفار رجله، وهذا واضح من مكوناته فبعض الناس يرى أنه في مصاف منزلة أكبر من منزلته دون مبررات وإمكانات تؤهله لذلك. «اللي أمه في الدار قريصه حار» ومثله «ما يجوع اللي أمه الخبازه» وهذا وضح لا لبس فيه. وأما ما يشتبه على البعض من الأمثال لغموض فيه فهذا المثل: «إلى ذكر لك مرعى فارع من دونه» ومثله «إلى واعدت جمال فواعد عشرة» والمثل يدعو إلى عدم تصديق الآخرين بجزم ويقين، وبشكل تضيع معه الفرص، فإن ذكر لك مرعى لكي ترعى الأغنام فيه فلا تترك المراعي التي قبله ومررت عليها على أمل أنه صادق فتكون مفرط، بل أشبع غنمك في أقرب فرصة فقد لا تجد ما يقوله صحيحاً، وكذا الجمال وهو صاحب البعير الذي ينقل الناس والبضائع على جمله، لا تعتمد على جمال واحد بل واعد أكثر من جمال حتى لا ينساك أحدهم فتضيع عليك فرصة السفر. إن الأمثال الواضحة من محتواها ليست مجال نقاش، وأما بعضها فقد نراها سلبية من معانيها قياساً بوضعنا الحالي وعصرنا، فإن أردناها سلبية ركزنا في جانبها الظاهري وأجبرنا معانيها لكي تبدو سلبية تتوافق مع وجهة نظر من يقول أنها سلبية، واعتبرناها حجر عثرة في طريق الإنجاز، ولكن إن أخذناها على مضامينها الفعلية التي اعترف بها من قبلنا وتناقلوها عن قناعة فهي إيجابية، وموضوعية تتعامل مع الواقع مصدقية، مثل «الطبع يغلب التطبع» فالطبع بلا شك له صفة العمق في العادات والتربية ويبقى أثره طويلا ولا يستهان به، وهو مثل لا يدعو للاستسلام ولكنه يدعو للطباع الحسنة ابتداء، وبالتالي علينا منذ البداية أن نطبع أنفسنا منذ فترة مبكرة على الخصال والطبائع الجيدة لأنه من الصعب اقتلاع آثارها السلبية إن وجدت. ولا يفترض أن نجابه مثلا أو حكمة برأينا متناسين ومتجاهلين أجيالا اعترفت بصدقية تلك العبارات والأمثال وهي بلا شك أكثر فهما له من المتأخرين بحكم القرب من مصدر نشأته. والمثل «من عرفك صغير حقرك كبير» لا يعني بالضرورة الاحتقار بمفهومه الهابط بقدر ما يعني عدم التصديق بأن لدى هذا الصغير قدرات يمكنها أن تتفجر مستقبلا، وهذا بالفعل ما يحصل في المدارس، فقليل من المعلمين يهتم بالمواهب، ويعتقد أن الصغير يظل صغيرا في قدراته حتى إذا ما فوجئ بمخترع أو متميز استغرب أن يكون هو ذاك الصغير الهزيل الضعيف من طلابه، وهذه طبيعة كل الأشياء. ومن الأمثال «موت مع الجماعة رحمة» فقد يراه البعض يحمل فكرة سلبية تعني الموافقة دون إعمال العقل مثلا، وبعضهم يظنه يدعو إلى سياسة القطيع ولكن العكس صحيح، وهو كون الفرد يحرص على الاتفاق لا على الاختلاف ويد الله مع الجماعة، وما يراه المجموعة لاشك في أن فيه نفع قد لا يتبينه الفرد من أول مرة وربما كان الضرر من الاختلاف أكبر. والمثل «احفظ للناس ولا تصلح لهم» وهذا المثل تعرض لكثير من النقد عند بعض الناس لمجرد وجود عبارة (ولا تصلح لهم) فقد يدعي بعضهم أن المثل يدعو إلى عدم الإصلاح للناس، وهذا مكمن الاختلاف، فالمثل لا يرفض الإصلاح للآخرين، ولكنه يطلب من الفرد أن يتصرف بما يراه صاحب المال أو الشأن أيا كان، ومعروف أن من تصرف عكس ما يقال له فهو ضامن فيما لو حصل خسارة أو تلف حتى ولو كان يرى أن ذلك أصلح. ومن الأمثال «النار ما ترث إلا الرماد» ولكونه مثلا يطبق على الأولاد والأحفاد وأنهم لا يرثون المكارم من أهلهم، بل يأتون عكس آبائهم، فالذين يمكن رفضهم للمثل كونهم يطبقون حرفية المثل، بينما هو نقد لاذع لمن يخالف أهله في المكارم وبالتالي يدعوهم لتجنب تلك المخالفة، وهو لا يقرر أن الأجيال تخاف أجدادها، وعلى هذا لا معنى لرفضه أو الاعتراض عليه، وتبقى وسيلة التحذير من الشيء جائزة بكل الأساليب الممكنة المقبولة. والمثل «لو قيل لك رأسك مهوب عليك رحت تلمّسه» فقد يعترض عليه البعض كونه غير معقول، ولا وجه للاعتراض، لأنه ليس من شرط المثل أن يكون معقولا، لكنه يؤكد أن الإنسان يفوته بعض الأحيان التبصر في الأشياء ويغلب عليه الشك فما لا شك فيها، والقصد من المثل التبرير. لكن المثل يبالغ من أجل تأكيد حقيقة تحصل عادة للناس ويراد التنبه لها وعدم القلق منها. وختام هذا كله إن الأمثال خلاصة تجربة ونحن نفسرها بالدلالة على وجهتها، وعلى ذلك فهي عبارات موجزة تحتاج في بعض الأحيان إلى إيضاح، وهذا الاختصار فيها يعد من إيجابياتها، لأنها تقدم في الغالب لمن يستقبلها بالفطنة، و من ينفعه التلميح لا التصريح. وللمقال بقية قادمة بإذن الله، نستوضح ما للمثل الشعبي من تصنيفات.