جرت منذ انتهاء الحرب الباردة، عملية إعادة بناء واسعة للعلاقة مع أوروبا، التي لم تعد منشطرة سياسياً أو أيديولوجياً. وتمت إعادة تأكيد الارتباط العسكري مع الحلفاء الأوروبيين، بعد أن أوضحت حروب البلقان أن فك هذا الارتباط، أو تقليصه، ليس خياراً ممكناً على الصعيد العملي شهدت الخيارات الخارجية للولايات المتحدة ثلاثة تحوّلات كبرى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى يومنا هذا، فبعد تلك الحرب وضعت أوروبا في قمة أولويات الأمن القومي الأميركي. وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي انتقل التركيز على منطقة الشرق الأوسط، مدعوماً بالغزو العراقي للكويت. وشهد العقد التالي تزايد التورط الأميركي في هذا الشرق، وبلغ ذروته بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر عام 2001، وحرب العراق عام 2003. وجاءت الموجة الرئيسة الثالثة من التحوّلات، بعد بدء الانسحاب الأميركي من العراق، إذ جرى وضع أوروبا والشرق الأوسط في مكان أبعد ضمن دائرة الاهتمامات الأميركية، لمصلحة ما عرف "بحقبة آسيا"، التي قصد بها تركيز الاهتمام الأميركي على منطقة آسيا - الباسفيك. وعلى الرغم من ذلك، فإن الولاياتالمتحدة حرصت التأكيد على استمرار دورها في أوروبا والشرق الأوسط، وأن هذا الدور جزء أصيل من مقاربة أمنها القومي. وكانت قد جرت منذ انتهاء الحرب الباردة، عملية إعادة بناء واسعة للعلاقة مع أوروبا، التي لم تعد منشطرة سياسياً أو أيديولوجياً. وتمت إعادة تأكيد الارتباط العسكري مع الحلفاء الأوروبيين، بعد أن أوضحت حروب البلقان أن فك هذا الارتباط، أو تقليصه، ليس خياراً ممكناً على الصعيد العملي. وقد تغيّر الوضع الاستراتيجي في أوروبا تغيّراً جذرياً، اعتباراً من العام 2004، عندما انضمت إلى حلف شمال الأطلسي(الناتو) سبع دول جديدة هي: ليتوانيا ولاتفيا واستونيا ورومانيا وبلغاريا وسلوفاكيا وسلوفينيا. وكان لهذا التطوّر تأثير أكثر عمقا ودلالة مما أحدثه انضمام بولندا والتشيك والمجر. وفي جنوب القارة، بات البحر الأسود منطقة نفوذ أطلسية شبه كاملة، تراجعت فيها مكانة روسيا، ودورها التاريخي. فإضافة إلى تركيا، العضو القديم في الأطلسي، أضحت كل من بلغاريا ورومانيا عضوين في الناتو، وأصبحت جورجيا حليفاً وثيقاً للغرب. كما تراهن دول الناتو على إمكانية أن يغدو بحر آزوف متاحاً لقواتها، إذ إن مضيق كيرتش (الذي يصل بحر آزوف بالبحر الأسود) يخضع لرقابة أوكرانيا، التي لا تبدو مستقرة في ولائها للروس. وكل ما حدث يدفع باتجاه تعزيز ارتباط أوروبا بالولاياتالمتحدة، وليس العكس. حدث ذلك على الرغم من انطلاق سياسة الأمن والدفاع الأوروبية المشتركة، التي سعت لإعادة تعريف دور أوروبا. وقد دشنت هذه السياسة مع إطلاق معاهدة ماسترخت في 9 - 10 كانون الأول/ ديسمبر 1991، التي جرى التوقيع عليها في 7 شباط/ فبراير من العام التالي. وكان هدفها تطبيق سياسة خارجية وأمنية مشتركة. كذلك، جرى في العام 2004 تأسيس وكالة الدفاع الأوروبية، بهدف تطوير كافة المجالات المتعلقة بالقوات المسلحة الوطنية للدول الأعضاء، وإقامة المشروعات المشتركة بين القوات المسلحة للاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من ذلك، استمر الإنفاق العسكري ضعيفاً في أوروبا، الأمر الذي ألقى مزيداً من الشكوك حول قدرة الاتحاد الأوروبي على تنفيذ خططه الأمنية، التي يصبو من خلالها للنهوض بالتزامات كونية الطابع. وفي السياق ذاته، رمت قضية الإنفاق الدفاعي في أوروبا بظلالها على ما يعرف "بتقاسم الأعباء" بين ضفتيْ الأطلسي، وخاصة في ضوء ما أثارته حرب أفغانستان من تحديات. وخلال الفترة بين 2001 – 2008، تراجع الإنفاق الأوروبي على المشتريات الدفاعية بنسبة 10%، وعلى البحث العلمي الدفاعي بنسبة 14%. وشهد العام 2011، خفضاً في الميزانيات العسكرية لكل من فرنساوألمانيا وبريطانيا. وكان ذلك في معظم الحالات جزءاً من محاولات الحد من العجز في الموازنة العامة. وحدثت تخفيضات كبيرة في كل من اليونان وإسبانيا وايطاليا وأيرلندا. كما حدثت تخفيضات حادة في معظم بلدان أوروبا الوسطى. وهبط الإنفاق العسكري في مجموع دول غرب ووسط أوروبا. وجاءت نسب التخفيضات الكبيرة في أوروبا على النحو التالي: اليونان (26% منذ عام 2008)، اسبانيا (18%)، إيطاليا(16%)، أيرلندا (11%) وبلجيكا (12%). وقد صدرت تحذيرات في الولاياتالمتحدة من أن التراجع المستمر في الإنفاق الدفاعي الأوروبي من شأنه أن يحول دون اطّلاع أوروبا بأي دور مؤثر في قضايا الأمن الدولي. وهناك من يعتقد أن خفض الإنفاق الدفاعي المستمر يعني أن أوروبا لن يكون بمقدورها المساهمة بفعالية في مهام خارج حدود المنطقة في المستقبل. وهذه هي المهمات العسكرية الوحيدة المرجح أن يقوم بها حلف الناتو. وفي نيسان/ ابريل 2012، طالبت لجنة في الكونغرس الأميركي الحلفاء الأوروبيين بتحمل قدر أكبر من نفقات درع الدفاع الصاروخي. وقررت لجنة القوات المسلحة الإستراتيجية التابعة لمجلس النواب الأميركي حجب 25% من الأموال المخصصة لبعض نفقات الدرع إلى أن يفصح الحلفاء الأوروبيون عن حجم مساهماتهم. وجاء في وثيقة اللجنة أن التكلفة الإجمالية للدرع الصاروخي الأطلسي غير معروفة، لأنه لا يوجد اتفاق على تعريف عناصره. وعلى صعيد حضورها العسكري في القارة، رأت الولاياتالمتحدة أنه بعد استخلاص تجارب ما بعد حربي العراق وأفغانستان، ونهاية مرحلة طويلة من ضمان الأمن القومي بنشر قوات كبيرة خارج الحدود، أصبح بمقدورها المحافظة على أمنها بعدد أقل من القوات التقليدية في أوروبا، والتركيز بدلاً منها على التفوق النوعي في القدرات الإستراتيجية. وواجهت الإدارة الأميركية تحديات في إقناع الحلفاء الأوروبيين بأن خفض القوات، المتزامن مع المسار الجديد للسياسة الخارجية، لا يعني تخلياً عن التزاماتها في أوروبا. وفي خطابه الذي ألقاه في ألمانيا، في الرابع من شباط/ فبراير 2012، قال وزير الدفاع الأميركي، ليون بانيتا: "إن أوروبا لا تزال شريكتنا في الدبلوماسية والدفاع في كافة أنحاء العالم. ولذا نحن ملتزمون تماماً بتعزيز الشراكة الأمنية عبر الأطلسي، بما في ذلك منظمة حلف الناتو". ويعتبر الدرع الصاروخي الأطلسي، المراد نشره في أوروبا، التطوّر الأهم في العلاقات الدفاعية الأميركية - الأوروبية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. وأشارت الولاياتالمتحدة إلى أن الغرض من إقامة هذا الدرع يتمثل في حماية الحلفاء من أية صواريخ باليستية قد يتم إطلاقها من الشرق الأوسط، وتحديداً من إيران. وفي قمته التي عقدت في لشبونة، في 19 تشرين الثاني /نوفمبر 2010، أعلن حلف الناتو رسمياً تبنيه لمشروع الدرع الصاروخي في شكله الجديد. وسيتألف الدرع، الذي يتم التحكم به انطلاقاً من قاعدة رامشتين العسكرية بألمانيا، من رادار في تركيا، وفرقاطات مزودة بأنظمة (AEGIS) وصواريخ اعتراضية قياسية من طراز (SM-3)، منتشرة في البحر الأبيض المتوسط، إضافة إلى صواريخ اعتراضية أرضية سيجري وضعها في كل من بولندا ورومانيا. وفي العشرين من أيار/ مايو 2012، أعلن قادة دول الناتو أن هذا الدرع دخل الخدمة بشكل جزئي. ولن يعمل بكامل طاقته قبل العام 2020، حين يتم نشر الصواريخ الاعتراضية في بولندا ورومانيا. وكانت الولاياتالمتحدة قد وقعت مع بولندا في العام 2008 على اتفاقية لنشر عشرة صواريخ اعتراضية، تقرر أن تُثبَّت في قاعدة (Redzikowo) الجوية السابقة، في شمال غربي البلاد. وفي الخامس عشر من أيلول/ سبتمبر 2011، أعلن البلدان دخول الاتفاقية المبرمة بينهما حيز التنفيذ. وذكرت وزارة الخارجية الأميركية في بيان أن واشنطن ووارسو تعلنان بشكل مشترك دخول الاتفاقية الدفاعية حول الصواريخ الباليستية لعام 2008، وبروتوكول التعديل لعام 2010، بشأن نشر نظام (SM-3) الأرضي في بولندا، حيز التنفيذ. وفي تطوّر آخر، على صعيد استكمال منظومة الدفاع الصاروخي الأطلسية، أعلنت الحكومة الاسبانية في الخامس من تشرين الأول/ أكتوبر 2012 أنها سمحت بنشر أربع سفن حربية أميركية محملة بأنظمة (AEGIS) وصواريخ (SM - 3)، وألف عسكري أميركي، في قاعدة روتا البحرية في جنوب البلاد. وسينضم الفريق الأميركي الجديد إلى الجنود الأميركيين المنتشرين على الأراضي الإسبانية، بموجب الاتفاق الدفاعي الثنائي المشترك لعام 1988. والذين يبلغ عددهم سبعة آلاف جندي. وكانت مدريد قد أعطت أول موافقة لها بهذا الشأن في تشرين الأول/ أكتوبر من العام 2011. وتُعد صواريخ (SM-3) المطوّرة ذات معدلات تسارع عالية، لديها ارتفاع اعتراض يفوق 1000 كيلومتر. وقد اختُبرت هذه الصواريخ بنجاح كسلاح مضاد للأقمار الصناعية. وهذا يعني أن لديها القدرة على مواجهة الصواريخ الباليستية، بما فيها تلك العابرة للقارات (ICBMs). وكذلك الصواريخ الجوالة، التي تُطلق من الغواصات..