كثيرة هي الحكايات التي تدل على أن الطبع يغلب التطبع، وأن تربية عدد من القطط لعدة شهور وبمختلف الجهود ضاعت في ثانية حين ألقي أمامهن فأرة! ولهذه الحكاية أشباه كثيرة في أدبنا العربي، منها قصة المرأة التي رأت وهي ترعى ذئباً مولوداً لتوه قطعة لحم صغيرة تنتفض جوعاً ورعباً، فعطفت عليه وتبنّته وأسكنته معها هي وكلابها وغنمها وجعلته يرضع من شاتها المفضلة حتى ألِفها وألفته وصارت الشاة كأنها أمه، وهي فعلاً أمه من الرضاع، فلمّا كبر واستقوى وثب على أمه فبقر بطنها وأكل كبدها وهرب، فُجِعت الأعرابية وقالت: (بقرت شويهتي وفجعت قلبي وأنت لشاتنا ابنٌ ربيبُ غُذيتَ بدرها وربيتَ فينا فمن أبنأك أن أباك ذئبُ إذا كان الطباعُ طباعَ سوءٍ فلا أدبٌ يفيد ولا أديبُ) ونحوها قصة الأعرابي الذي دخلت خيمته ضبعة يطارها الرجال ليقتلوها فخرج عليهم شاهراً سيفه وقال: لقد استجارت بي! الويل لمن يقربها! قالوا: إنها ضبعة مفترسة فأصرَّ وانفضوا عنه ساخرين، فقدم لها اللحم واللبن كرماً وحماً، ونام قرير العين فوثبت عليه وأنشبت أسنانها الحادة في رقبته وأخرجت قبله فأكلته، وقيل فيه: (ومن يصنع المعروف في غير أهلهِ يُلاقي ما لاقى مجير أُمِّ عامرِ أدام لها حين استجارت بقربهِ قراها من ألبان اللقاح الغرائرِ وأشبعها حتى إذا ما تملأتْ فرته بأنيابٍ لها وأظافرِ) هذه القصص وأشباهها المراد منها إثبات أن الوراثة أساس والتربية قشور.. ولكننا لا نوافق على ذلك بإطلاقه، فما ينطبق على البهائم لا ينطبق على بني آدم إلا الذين هم كالأنعام أو أضل سبيلاً. الوراثة مهمة جداً وأساسية، والتربية كذلك، وشخصياً أعطي لكلٍّ منهما 50٪ من التأثير في سلوك الناس وأخلاقهم، فإن التربية الجيدة الحازمة تقوم المُعْوجّ، والأنظمة المدروسة المطبقة تصنع الوعي، والإنسان بطبعه قابل للتغير والتشكل إذا كان ذلك منذ الصغر، نستثني هنا (الشخصية السيكوباتية) التي يرى علماء النفس أنه لا علاج لها، وهي المنهومة بذاتها مهما كان الثمن وبلا أي وازع. ويبقى قول المنبي صحيحاً: (إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا) لكن هل جاء الكرم أو اللؤم من الوراثة أم التربية.. إنها قصة البيضة والدجاحة.