هل أصيب الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز بالخرف، كما صرّح شقيقه بذلك لوكالات الأنباء، أم أنه لم يصب بالخرف أبداً، كما نفت مؤسسة «الصحافة الجديدة» التي أسسها ماركيز في كولومبيا؟ الأمر سيّان، فالروائي الكبير، الذي احتفل قبل أشهر بميلاده الخامس والثمانين، قد تخفّف كثيراً من الكتابة منذ تسعينيات القرن الماضي، بعد إصابته بسرطان الغدد الليمفاوية، وخضع للعلاج الكيماوي، رغم أنه تم التصريح بأنه قد أنجز عملاً عنوانه «النمرة» يحكي قصة نمرة تحاول أن تقتص من رجل أعمال قتل نمرها. الكولومبي ماركيز، وفي كثير من حواراته، يراهن على الذاكرة الحديدية الحيّة، لأي روائي في العالم، فهي الزاد الذي ينهل منه أعماله الروائية، وحين يُصاب الروائي في ذاكرته، فإنما يُصاب في مقتل الكتابة، وبالتالي في حياته بأكملها. كم كانت خيبة ماركيز كبيرة جداً، وهو يتلقى اعتذار دار نشر لوسادا عام 1951م عن نشر روايته الأولى «عاصفة الأوراق». ليت الأمر اقتصر على الاعتذار دونما تفاصيل، بل لقد كانت الرسالة الواردة من بوينس آيرس، جاءت اسم مدير الدار السيد غييرمو دي توري، أحد أبرز نقاد الأدب الأسبان آنذاك، وأحد أقرباء خورخي لويس بورخيس، أحد أكثر الأدباء الذين أعجب بهم ماركيز، تقول الرسالة بأن الأديب الشاب يتمتع بموهبة شعرية، إلا أنه ليس لديه أي مستقبل في كتابة الرواية، واقترح عليه الناقد صراحة أن يبحث عن مهنة أخرى! كانت ضربة قاضية لماركيز، وكاد أن ينصرف إلى دراسة الحقوق مرة أخرى، كي يصبح محامياً وينقذ أسرته من الجوع، لكنه أصبح بائع موسوعات متجولاً، وقرأ «العجوز والبحر» لهمنجواي، و «السيدة دالااوي» لفرجينيا وولف، وهكذا اشتغل وتشرّد وسافر طويلاً متتبعاً سيرة أسلافه، حتى أنتج روائعه «مائة عام من العزلة» و»خريف البطريرك» و»الحب في زمن الكوليرا» وغيرها من روائعه الخالدة، والعجيب أنه دائماً يردد أن ما يكتبه هو الواقع، وليست واقعية سحرية كما كان يتردد دائماً. يقول إن عمله الجميل «أحداث موت معلن» هي حكاية حقيقية، وربما الشيء الوحيد الذي غيّر فيه، هو أن بطل العمل السيد سانتياغو نصّار، جعله لبنانياً، بينما هو في الواقع كان إيطالياً. ما يهم هنا، أن هذا الرجل الذي داهمه، أو قد يداهمه الخرف، هو من بقي خالداً، باسمه وأعماله العظيمة، بينما الناقد الأسباني دي توري، والذي نصحه بالبحث عن عمل آخر غير الكتابة، لا أحد يعرفه ولا يتذكره الآن، سوى ما ورد في هذه الحكاية الطريفة، وربما هذه الحكاية هي خير درس للروائيين الشباب، بأن لا تهتز ثقتهم بأنفسهم أمام خزعبلات وتنبؤات النقاد أو غيرهم، فهذا الروائي العظيم وعد الرجل الذي فتح له العمل في بيع الموسوعات، بأن يكتب عملاً يضاهي «دون كيخوته» لسرفانتس، وقد أوفى ماركيز بوعده، وكتب رائعته «مائة عام من العزلة». سواء فقد ماركيز ذاكرته، أو رحل عن هذا العالم، سيبقى أثر أعماله كبيراً، ولن يتوقف تداول روايته «مائة عام من العزلة» عند الثلاثين مليون نسخة، بل ستبقى عملاً مؤثّراً ومعلماً للأجيال القادمة.