لا تكاد تخلو مائدة من عنصر طبيعي حباه الله لأرض بعينها.. ألا وهو "الملح" الذي على الرغم من انخفاض سعره المادي، إلاّ أنه يعد من أهم ضرورات الغذاء، فلا يستساغ الطعام بدونه.. وأشهر أنواعه وأنقاها ينتج من "ممالح" مركز القصب التابع لمحافظة شقراء على بُعد (150) كيلاً شمال غربي منطقة الرياض، واكتسب، "ملح القصب" شهرة واسعة منذ القدم على مستوى المملكة، بل وتعدّاها إلى الدول المجاورة، مما دعا شاعر القصب المعروف "حمدان الشويعر" إن يُعرّف بلدته في القرن الثاني عشر الهجري ببيت شعري قال فيه: "أنا من ناس تجرتهم.. أرطى الضاحي ودوا الغيرة"، حيث أن "الضاحي" هو النفود وما فيها من شجر "الأرطى" من أجود أنواع الحطب، وقصد ب"دوا الغيرة" الملح، والغيرة في مقصده هي "التخمة" إذا أصيب بها أحد فعلاجها قليل من الملح يساعد على سرعة الهضم. وقد ضرب المثل ب"ملح القصب" وأهلها فيقول المثل "يهدي الملح على أهل القصب!"؛ وذلك لمن يهدي شخصاً شيئاً متوفراً بكثرة لديه؛ دلالة على أن القصب أقرب الناس إلى الملح ووفرته كبيرة عندهم فلا حاجة إلى أن تهدي لأحدهم ملحاً. img src="http://s.alriyadh.com/2012/12/07/img/661006725586.jpg" title=""بركة" إنتاج ملح يتطلب جفافها فترة أربعة أشهر صيفاً وستة في الشتاء" "بركة" إنتاج ملح يتطلب جفافها فترة أربعة أشهر صيفاً وستة في الشتاء مملحة القصب تقع "مملحة القصب" عن مدينة القصب على بعد أربعة كيلو مترات نحو الجنوب، وهي ذات مساحة واسعة تقترب من النفود الغربي (عريق البلدان)، وتصل شرقاً إلى الطريق القادم من الرياض إلى القصب، حيث تظهر بعض المعالم لها في شكل مزهرات من الأملاح والسبخات في مجاري الوديان الدنيا. وأورد "ناصر بن عبدالله الحميضي" -مؤلف كتاب (القصب)- معلومات عن موقع المملحة، وطريقة الإنتاج، حيث ذكر أنها عبارة عن "سبخة" تغذيها أودية "الحمادة" كلها تقريباً، حيث تتجه من كل صوب لتستقر بأحمالها من الطمي والرمال والأملاح مشكلةً وسطاً من الأرض الفقيرة زراعياً ونباتياً حيث لا يعيش نبات ولا ينمو شجر، سوى شجيرات "الطرفا القزمية"، وبعض الشجيرات التي أصابها شلل في نموها لوجود أملاح شديدة التركيز أعاقتها كثيراً، أما الأعشاب والحشائش فإنها لا توجد البتة، مبيناً أن الأرض مستوية تماماً في أرض السبخة، وهذا الاستواء نتيجة طبيعية؛ فالرواسب شكّلت السطح والمياه جعلته مستوياً، وتحاط هذه الأراضي السبخة بأرضٍ أقل أملاحاً، ونظراً لجودة تربتها فقد أصبحت مزارع جادت بمحاصيلها من القمح خاصةً وقت غزارة الأمطار، مثل أماكن "الحجيرة" و"أعيوج"، واذا انقطعت الأمطار فترة ولو قصيرة صارت تلك الأراضي ذات تربة تزداد فيها نسبة الملوحة. عاملان أثناء عملية جمع وتنقية الملح من الشوائب طريقة الإنتاج القديمة قد تبدو عملية إنتاج الملح للوهلة الأولى لكثير من الناس أنها من أبسط أنواع الإنتاج؛ لأنها لا توجد فيها عملية تحويل أو تعديل أو زيادة أو نقص، بقدر ما تكون مسألة الحصول على مادة موجودة كما هي بعد كشف التربة عنها، ولكن الحقيقة على العكس من ذلك، إذ إن إنتاج الملح يتطلب وقتاً وجهداً ومتابعة مستمرة، فقد كان الأمر يتطلب قديماً اختيار الأرض المناسبة أولاً بحيث تكون سبخة - مستوية -، ومن ثم وضع حواجز ترابية تمنع السيول من مداهمتها، ويتم حفر حفرة دائرية كالبئر، من أجل أن تخرج منها المياه على بُعد بضعة أمتار نظراً لقرب المياه الجوفية في موقع المملحة، وتسمى تلك الحفرة ب"عين الجفر" وتمد حوض إنتاج الملح بالمياه وتزوّده به كلّ ما جفّ بفعل حرارة الشمس، بعد ذلك تُحفر حفراً مربعة الشكل بمساحة تقدر بعرض ثلاثين متراً وطول مماثل وعمق ثلاثة أمتار تقريباً، ومن ثم تملأ بالمياه من "عين الجفر" وتترك لتجف، وقد تستغرق مدة تجفيفها وظهور الملح أربعة أشهر في الصيف، أما اذا صادف ذلك موسم الشتاء فقد تطول المدة إلى ستة أشهر، بعد ذلك يبدأ العمال باستخراج الملح الأبيض النقي من تلك البرك، وقد يكون أحياناً فيه شوائب ترابية فيضطر العاملون إلى غسله بالماء المالح حتى يكتسيه البياض، ويحدد نقاوة الملح وبياضه الناصع مدى صفاء الماء المستخرج من عين الجفر؛ فكلّما كان نقياً اسُتخرج ملحاً أبيض نقياً بنقاء الثلج، إضافة إلى عذوبة الماء بفعل تتابع الأمطار، واستمرت تلك الطريقة البدائية في استخراج الملح لعدة قرون، واعترتها مشقة أنهكت الأجداد فتركوها لمشقتها منذ عقود قليلة، وتهرّب معظم الأبناء من هذه المهنة الشاقة، وذلك بعد توفر عمالة وافدة شكّلت أيادٍ عاملة ورخيصة الأجرة وتستطيع العمل بجد دون أن تلتفت لمشاغل الحياة، حيث سكنت بالقرب من الممالح، فصار شغلهم الشاغل هو إنتاج الملح بجد واجتهاد. أكياس الملح الخشن جاهزة لتسويقها تسويق بدائي بعد أن يتم استخراج الملح من البرك كانت عملية تسويقه عن طريق نقله بالجمال قبل ظهور السيارات في أكياس من القماش أو الجلد، ومن ثم يتجه إلى الأسواق ويباع بالوزن، أما بعد ظهور السيارات، فقد كان ينقل في حوض السيارة - صندوقها الخلفي- سائباً، ومن ثم بيعه على المحلات التجارية بالوزن، وكان الكيلو بريال تقريباً، ومسألة تسويقه شاقة، حيث ينتظر صاحب السيارة أياماً لتسويق ما معه من ملح، وكتطور طبيعي صار الملح حالياً يباع في عبوات بلاستيكية وأكياس ذات أحجام صغيرة فزادت تلك الطريقة من تسويق الملح. أكياس الملح جاهز للبيع موقف طريف وتُروى قصة طريفة أثناء تسويق الملح في صندوق السيارة قديماً.. ما حصل لاثنين سارعا إلى تحميل الملح من أجل توصيله بأجرة إلى أحد التجار في بلد بعيد، وبعد أن أحكموا إغلاقه ووضعوا فوقه غطاء، وأخذوا معهم "زهابهم" وما يحتاجون إليه من طعام أثناء السفر الطويل، وبينما هم يقفون للراحة، وإعداد طعامهم، وبعد شروعهم في الطبخ تذكّروا أنهم قد نسوا الملح، وكان بالقرب منهم أحد بيوت الشعر تسكنه أحد عوائل البادية في البر، ويقع بالقرب من طريقهم الذي توقفوا بجانبه، فقال أحدهم للآخر أكمل الطبخ وأنا سأذهب أطلب منهم قليلاً من الملح، فاتجه إليهم فلمّا وصل طلب قليلاً من الملح؛ فحاوره صاحب البيت من أين أتيت وإلى أين أنت ذاهب، وكان من ضمن أسئلته "ماذا تحملون؟،" فتذكّر أنه يحمل ملحاً على ظهر السيارة، وقد نسيه هو وصاحبه؛ فكتم في نفسه ضحكة من هذا الموقف، ولم يخبره بما يحمل وعاد مسرعاً إلى صاحبه وهو يضحك، مذكّراً إياه بما يحملون على متن سيارتهم من كميات ملح، ففتحوا الغطاء، وأخذوا منه ما يكفيهم، ووضعوه في طعامهم الذي تناولوه وهم يضحكون من هذا الموقف الطريف. إنتاج تقني بعد ظهور التقنية الحديثة والمعدات الثقيلة المتطور، تقلّصت المشقة على العاملين في إنتاج الملح، وزادت كمية استخراجه بكميات كبيرة وتجارية أسهمت في خفض كلفة الإنتاج بعد تقليص عدد العمالة الكبير الذي كان يتطلبه العمل، حيث باتت المعدات تتولى حفر البرك بأعماق كبيرة ومساحات واسعة؛ وبعد جفاف البرك من المياه أصبحت المعدات هي التي تخرج الملح النقي، وأصبحت مهمة العمالة العمل على تشغيل هذه المعدات الحديثة، وفي التعبئة اليدوية والتحميل في السيارات للتسويق؛ مما انعكس بدوره على المردود الاقتصادي وزاد من كمية الانتاج ووفرته. ومن مظاهر التطور التقني الذي طرأ على عملية استخراج الملح أيضاً، هو تأسيس أحد المواطنين مصنعاً لتكرير وإنتاج الملح، حيث يتولى المصنع انتاج الملح الخشن في عبوات جديدة جذابة إضافة إلى انتاج ملح ناعم في عبوات بلاستيكية متعددة المقاسات، وقد كانت الحاجة فعلاً ماسة إلى إيجاد مثل هذا المصنع، حيث وفّر عبوات الملح الناعم التي يحتاجها السوق المحلي، وكان يستوردها من عدد من الدول على الرغم من توافر الملح بكميات تجارية كبرى تهيئها لتغذية السوق المحلي وأسواق عدد من الدول المجاورة. تعددت طرق التعبئة والتسويق تجاوز المملكة معلم سياحي نظراً للتوسع في البرامج السياحية في المملكة؛ أصبحت "مملحة القصب" مقصداً للسائحين وخصوصاً للأجانب، حيث يتولى "مكتب الهيئة العليا للسياحة والآثار بمحافظة شقراء" الإشراف على عدد من البرامج السياحية والوفود التي تزور مملحة القصب، حيث يُبدون إعجابهم بمشاهدة طريقة إنتاج الملح وتعبئته، وأضحت مملحة القصب من المواقع السياحية الشهيرة بمنطقة الوشم، وتقف جنباً إلى جنب مع المواقع السياحية الشهيرة بالمنطقة. وتعد ثروة الملح (الذهب الأبيض) نعمة حباها الله للمملكة التي تُعد من الدول الرئيسة في إنتاج الملح، من خلال ما يتم إنتاجه سنوياً بمقدار (مائتي ألف طن)، وما يعادل نسبة (01.%) من الإنتاج العالمي، حيث تأتي الولاياتالمتحدةالأمريكية في الصدارة بين الدول المنتجة بما يعادل (22%)، وجاءت المملكة في المرتبة الثالثة والخمسين.