كما أن لكل زمان دولة ورجالا، لكل عصر أيضا أمراضه ومشاكله الصحية الخاصة.. ومن المشاكل الصحية التي تميز عصرنا الحالي - بالإضافة للبدانة والسكري والمواد المسرطنة - انتشار الكسل وانخفاض مستوى الجهد البدني.. فأبناء هذا العصر يعانون بكل بساطة من قلة الحركة وعدم بذل مجهود بدني كاف كما كان يفعل أجدادهم.. فانتشار السيارة ووسائل المواصلات الحديثة، وعزوفنا عن العمل في الحقل والميدان، وعيشنا في الغرف والمكاتب المكيفة، وجلوسنا الطويل أمام التلفزيون وأجهزة الكمبيوتر.. جميعها عوامل قلصت من حركة أجسادنا وبذل عضلاتنا المزيد من الجهد الحميد. وحين يتحول كل هذا إلى (نمط حياة) تبدأ الشحوم في التراكم، والقلب في الاسترخاء، والعضلات في الترهل، ودورتنا الدموية في ترسيب الكولسترول.. والمحصلة جملة من الأمراض التي تتراوح بين القلب والشرايين إلى السكري والشيخوخة المبكرة! والظاهرة بدون شك عالمية (بقدر عالمية السيارة ووسائل المواصلات) بحيث أصبح الكسل يصنف الآن كوباء عالمي يدعى pandemic of sedentarism. وأذكر أن وزارة الصحة الفرنسية أجرت في عام 2002 دراسة ميدانية تبين من خلالها أن 80% من الشبان تحت 19 سنة لم يقوموا بأي نشاط جسدي مؤثر في آخر 15 يوماً.. كما تبين أن 28% منهم لم يسيروا لمسافة تزيد على الكيلومتر أو يمارسوا المشي لأكثر من ثلاثين دقيقة (وهما الحد الأدنى المفروض يوميا).. وفي المقابل تبين ان 88% منهم يشاهدون التلفزيون لأكثر من ساعتين و45% منهم يقبعون أمام الكمبيوتر لساعات طويلة دون حراك! وفي مطلع عام 2012 (وتحديدا في عدد 11 يناير) نشرت مجلة القلب الأوروبية European Heart Journal نتائج دراسة راقبت 29 ألف حالة في 262 مركزا طبيا في 52 دولة حول العالم.. ورغم أن نتائجها أكدت دور العوامل المعروفة في أمراض القلب؛ لفتت الانتباه أيضا الى عامل جديد ومهم هو علاقة النشاط البدني (والجهد الذي نبذله كل يوم) باحتمالات إصابتنا بالجلطة وأمراض القلب.. فبمعزل عن العوامل المعروفة (كالسمنة والتدخين والضغط والسكري والكوليسترول) اتضح أن الكسل يفاقم احتمال تكون الجلطة وإصابة القلب وانسداد الشرايين.. فعمل الإنسان في وظيفة تتطلب قدرا من الجهد والحركة يقلل بنسبة 22% من احتمالات إصابته بأمراض القلب مقارنة بشخص يمارس عملا مكتبيا مريحا.. كما اتضح أن ممارسة قدر من الجهد البدني في أوقات الفراغ يقلل بنسبة 24% من احتمالات الإصابة مقارنة بزميل يقضي كامل يومه في راحة واسترخاء.. كما لاحظت الدراسة أن إصابة الأشخاص الذين يستعملون السيارة أو يشاهدوا التلفزيون كانت أعلى بنسبة 27% مقارنة بالأشخاص الذين لا يمتلكون أيا منهما.. والغريب أكثر أن الموظفين في الدول الفقيرة كانوا معرضين بنسبة أكبر لأمراض القلب من الموظفين في الدول المتقدمة وذات الدخل المرتفع.. ويعود السبب - ليس فقط إلى ارتفاع نسبة الوعي في الدول المتقدمة - بل وتأثير المناخ الذي يشجع (في أوروبا وكندا مثلا) على المشي والحركة بينما لا يشجع على ذلك في الهند وافريقيا والخليج العربي - الأمر الذي يفسر الارتفاع المتواصل في أمراض القلب في الدول النامية الذي كان يعاد دائما الى "قلة الإمكانيات الطبية"!! .. وأنا شخصيا على قناعة بعلاقة المناخ بمستوى الجهد البدني بدليل أن معظم الألعاب التي ابتكرت في الشرق تمارس جلوسا في الأماكن المغلقة (كالشطرنج والبلوت وأحجار الدومنو) في حين تتطلب الألعاب التي ابتكرت في الغرب جهدا عضليا واضحا (مثل الرجبي وكرة القدم والتنس الأرضي).. وهذه المفارقة تعني أننا في عالمنا العربي معرضون أكثر من غيرنا لأمراض الكسل والبدانة والترهل الناجمة بدورها عن قلة الحركة وصعوبة ممارستها في أجوائنا الحارة! .. ومن حسن الحظ أن مجرد وعينا بهذه الحقيقة كفيل بمواجهتها وتطويعها وأقلمتها بما يضمن تحركنا ومشينا بنسبة أكبر. ولأن مساحة المقال انتهت قبل أن أخبرك (كيف؟).. أنصحك بالبحث في الانترنت عن مقال سابق بعنوان "الأقدام التي نسيناها".. وكن مطمئنا؛ لا يتضمن ممارستك للرياضة!!