نشرت صحيفة Le point الفرنسية عددا خاصا عن العقلانيين، الذين كانوا من رواد حركة التنوير في العصر الحديث، وكان العدد بتاريخ سبتمبر اكتوبر 2012، وأنا سأترجم في هذه المقالات بعض ما جاء فيه، منطلقا من فكرة أننا يجب أن نفهم الفكر السائد لديهم، حتى لو كنا نختلف معه، وهذا لا يعني أننا يجب أن نتبناه. يبدو أن العصر الذهبي للعقل قد عاد مرة أخرى، وهو لا يبدو لنا مثل التماثيل الكهنوتية لمنيرفا التي تجمّل القصور الكئيبة، ولكنه يعتبر مسؤولا عن كل الشرور : العلمانية ( نسبة إلى العلم ) وأخطاء التقنية والمحرقة وحتى العولمة. ولقد دأب الناس منذ القرن التاسع عشر على الاعتقاد أن العقل في خدمة القمع، وأنه يستبد بالجسد والروح، ومن العدل ألا يتهم بالماشية ( نظرية رياضية مهدت لنظرية النسبية ) والاستعمار، والمرء يجد فيه تتويجا للدوغماتية والتعصب، ولكن اللاعقلانية والنسبية المعاصرة هما اللتان حولتا العقل إلى أسطورة، والطريق المثلى للقضاء على هذه الأسطورة هي بالرجوع إلى العقلانيين العظماء مثل ديكارت وجون لوك وجوتفريد فلهلم لايبنز. ذلك لأن أفكارهم ليست فعالة فحسب بل الترياق الناجع ضد العزوف الذي يتعرض له العقل. التوافق وعدم التوافق : ومن هؤلاء الثلاثة المذكورين فإن الأبعد عهدا منا هو لايبنز ( 1646-1716 ) الذي كان يؤمن بحقيقة موضوعية ومطلقة كامنة في الإدراك القدسي، ولكن خارجة عنه، وهو يعتقد بوجود مجموعة من العوالم المحتملة التي سيستعرضها الله ويختار الأفضل منها، وهو يتشبث بمبدأ العقل المستقل بنفسه، وأنه لا يوجد شيء بدون منطق. وسلفه ديكارت ( 1596-1650 ) لم يكن بعيدا عنه. فالنسبة له فإن الحقائق الخالدة كالمنطق والرياضيات هي من صنيع إرادة الله. ولا يوجد شيء ممكن انطلاقا من ذاته، ولكن فحسب من خلال علاقة بروح ما، وبخلاف ما يذهب إليه لايبنز الذي يعتقد أن العقل يخضع لقوانين ثابتة للمنطق، فإن ديكارت يعتقد على النقيض من ذلك أن العقلانية كامنة في الذات الإنسانية التي تكتشف الحقيقة من خلال قاعدة برهانية. على أن لايبنز يتساءل إذا كان معيار البرهان هو الإلهام فكيف يمكن أن يكون هو أيضا معيارا لذاته، و هذا الاختلاف بين هذين المفكرين ليس عقيما، وبالتأكيد فإننا لم نعد نعتقد بوجود لا نهائي إيجابي،، ونحن دائما نسائل أنفسنا عن طبيعة المحتمل ( هل يمكن للتطور البيولوجي أن يتخذ مسارات مختلفة عن مساره، وهل الحياة يمكن أن توجد في مكان آخر؟) وهل لمعرفتنا حدود، وهل نظرياتنا الرياضية غير كاملة بالضرورة، ونحن فقدنا الأمل الذي كان يتطلع إليه لايبنز في إمكانية أن نشرح كل شيء، ومنذ إموانويل كانت وكتابه " نقد العقل المجرد " ( 1781- 1787 ) فإننا نطلق على مصطلح الدوغما كل ميتافيريقا تذهب إلى إمكانية معرفة العقل في حد ذاته، ولكن هل يتعين علينا من أجل ذلك أنت نتخلى حتى عن فكرة المعرفة الموضوعية، والعقل لا يبدو دوغماتيا إلا لأن النسبية المعاصرة التي تؤمن بأنه لا توجد حقيقة، إلا وفقا لتصورات مختلفة هي التي تخلط بين حق الكل في الوصول إلى الحقيقي، ووجهة نظر تقرر من خلال فكرة سخيفة تقرر أن كل الآراء قيمة. والنسبية الكلاسيكية تقرر أيضا أن المعرفة لا تقتصر على التجربة الحسية، وإن هناك مدركات تجذرت فينا من خلال الطبيعة ومن خلال الرب ( أفكار كامنة تولد مع الإنسان ) وجون لوك ) 1632-1704 ) كان الناقض العظيم لهذه الفكرة في قرن التنوير، والصانع العظيم لانتصار التجريبية، النظرية التي ينبني عليها أن السبب وراء كل المعارف هو التجربة، ولكن حينما يقرأ المرء الحوار بينه وبين لايبنز في كتابه " مقالات جديدة في الفهم الإنساني " يدرك أن الأشياء ليست بهذه البساطة، ولوك يعارض أفكار القرون الوسطى حين ينكر أن الأشياء لها طبائع وجواهر (مثلا جوهر الذهب معدن أصفر) والجواهر أو الأصول وفقا لما يقرره تعتمد على الطريقة التي نتبعها لتصنيفها، وهو لا يتفق مع مفكري القرون الوسطى في أن المادة هي الأساس المطلق لكل شيء. أي لا يمكن أن أعرف ماهيته، ولكنه يظل مقتنعا، بأن الحقيقة وتجريبيتها لا يستهان بها. كما هو الحال فيما يذهب إليه هيوم، وتجريبية لوك ستكتمل مع فيزياء نيوتن العلم الحديث. على أننا اليوم لم نغادر بعد الأفكار الكامنة والمعرفة الحسية، وسيكولوجية التطوير وضعتهما في مكان على. والمرء يسخر من ديكارت في البداية ومن فيزيائه، ولكن لا أحد يسخر من فكرة إن الإنسان مزود بنواة من المعرفة كامنة في غالبها، وأن مبادئ العقل تقاوم موجات التجربة، وأخيرا فإن العقل هو الموقف النقدي الذي يشكل التراث الأعظم لعصر التنوير، ولكن ليس الأقل دوغماتية الفكرة التي يشترك في الايمان بها كل من ديكارت ولوك ولايبنز، وهي : عدم تصديق أو الحكم على أي شيء بدون برهان أو أسباب مقنعة، وفي هذه الأيام، فإنه يطلب منا أن نصدق ما تملي علينا الثقة، سواء في شؤون الحياة اليومية، أو الدينية، وكأن الايمان خاضع لإرادتنا، ولقد تكيفنا مع البراغماتية فهم الذين يطالبون، بحيث إنه لو كان هناك موقف يستحق الايمان، فإنه من العدل ومن الممكن الرغبة في تصديقه، على أن البراغماتية هي أفضل حليف للاعقلانية، ثم أليس مفكرونا العظام المعاصرون يؤمنون بتبني تصور فعال للإيمان كعقيدة لا تحتاج إلى برهان، ولكن الالتزام بخدمة مثل أعلى، أو إنسان إلهي، يجد خلاصه هنا على الأرض، وهذا التصور لا يحتاج إلى أسباب للايمان غير عملية، وينظر إلى الاعتقاد كخيار شخصي أو حر. التحرر من الديني : وعقب عدم التعلق بالعالم نتيجة للعلم الحديث، فإنه من الواجب إعادة التعلق به للتصالح مع ما هو روحاني، وليس العقل هو الذي سيسارع إلى إنقاذ الاعتقاد، ولكن الاعتقاد هو الذي ينقذ العقل، والعقل على ذلك ليس له من عدو سوى الاعتقاد البراغماتي والرخو. ومع ذلك فإن لا يمكن على الاطلاق أن يخطر مطلقا على ديكارت ولايبنز الايمان بالله على اعتباره فقط أخلاقياً. ولوك أحد مؤسسي الفردية الديمقراطية الحديثة فإن أفضل محام للمثل الأعلى القومي، وهو يطلب من كل إنسان أن يحكم بنفسه، ومعتمدا على عقلانيته، وليس على أوهام حماسه أو رغائبه، وهو يدافع في فلسفته السياسية عن النظرية التي تبناها الثوار الأميركان التي تنص على أن العملية الديموقراطية تتطلب من المواطنين أن يعرض كل منهم منطقه، وأن كل إنسان يستطيع أن يصدر حكما عليه، وبدون الاعتراف بحقيقة أن كل إنسان يمكن أن يكون مصيبا أو مخطئا، وأن يكون قادرا على التعبير عنه للآخرين، فإنه لن تكون هناك ديمقراطية، بل استبداد في الرأي، فالعقل إذن يجب أن يصعد من قاعدته ويرقى إلى منصته، وأعداؤه التقليديون : التشكيكية، والاستعلاء والرومانتيكية، والنسبية يعترفون به سرا، لأنهم يحرصون على تبني ميزاته، وهنري برجسون والوجوديون، استفزونا، بقولهم لنا إن الإلهام، العبور الحيوي والحرية بدون التقيد بحكم هي في خدمة العقلانينة مع أنها نقيضها، ونحن مطالبون الآن بأن نخضع لإملاءات عقلية مجردة من المعرفة والتصورات، كما لو ان العقل النظري يجب أن يخضع للممارسة، ونحن وقد فقدنا الان الدين، فإننا أصبحنا جاهزين لتقبل الدين في الفكر الفلسفي، على أن أفضل وسيلة للخلاص من هذا المصير المحزن هو في قراءة ديكارت ولايبنز ولوك. جون لوك جوتفريد