تذكرت وأنا أتصفح ما كتبه الأستاذ سليمان بن محمد النقيدان في كتابه القيم «من شعراء بريدة» عن أسواق «بريدة» قديما أسواقاً شهدنا بهجتها في مواسم مدن الحجاز مثل «سويقة» و«الجودرية» وغيرهما، تلك الأسواق التي صغرت أسماؤها تمليحاً أو نسبت لأنواع من البضائع اشتهرت ببيعها، و«سويقة» اشتهرت بمعارض الاقمشة والعطور والأحذية الحديثة، وكانت تشهد ازدحاماً في المواسم وغيرها، ويتلقاك عبق عطورها قبل أن تدخلها حتى ضرب بذلك المثل: ريحة الهيْل في الفنجان يوم امتلا مثل ريحة سوَيْقة يوم عجّاتها وأسواق «بريدة» في الماضي لا تقل بهجة وجمالا عن غيرها من أسواق مدن المملكة، فالقصيم من الحواضر المعروفة قديما والبلاد المتحضرة ذات التواصل مع بلاد المشرق والشام ومصر، وأسواقها كانت تحفل بما تطلبه منطقة متحضرة شهدت حراكاً سياسياً واقتصاديا، فقد أطلق على مدينتها «عنيزة» باريس نجد ولذلك دلالة على تحضر هذه المنطقة. لقد استخلص النقيدان في كتابه وصفا لأسواق «بريدة» استقاه من الشعر الشعبي لسان حال ما قبل المائة عام في بلادنا، وكان وصفا دقيقاً لا انتقائية فيه، عبر عن أيام اليسر والعسر التي شهدتها تلك الأسواق، حتى يكاد القارئ أن يرى وجوه الناس ولباسهم، ويلمس معاناتهم وما يقاسون من شظف العيش، وما يشيع بينهم الفرحة ويملؤهم حبوراً، تلك الأسواق التي لا تسعها العيون وهي لا تزيد مساحة على جزء من أسواق اليوم، ولا يزينها ديكور أو واجهات اعلانية غير شهرة أصحابها المقدرين لظروف المعاناة وأحوال الناس، وفي الاسواق يصخب النداء على البضائع المحلية والمستوردة من عسل وتمر وسمن واقط وأغنام وأقمشة وعباءات وعطور ونحوها مما تجود به الزراعة والبادية والبلاد الخارجية. وفي تلك الأسواق تنبض الحياة بألوانها التي تواري المعاناة وتجدد ما عرف عن الأسواق عبر تأريخها منذ صدور أول اعلان تسويقي عرفته الحضارة الإسلامية على لسان شاعر روّج لنوع من العباءات النسائية: قل للمليحة في الخمار الأسود ماذا فعلت بزاهدٍ متعبد قد كان شمَّر للصلاة ثيابه حتى عرضت له بباب المسجد وما تلا ذلك من أساليب الغزل المتعددة والمتنوعة، وكل نوع منها يخلع على أهل زمنه أخلاقهم فتتناقلها الأجيال. ليتني مثل ابن سعدون بقبّة رشيد كل غِرْوٍ يشوفه في المسا والصباح وسوق «قبَّة رشيد» كما يصفها النقيدان كانت سوقا خاصة «تباع فيه كثير من متطلبات أهل البلد.. ولكن سمات الفقر تبدو أكثر وضوحا على وجوه الباعة فيه» إذا كان الباعة كذلك فماذا عن المتسوقين والمعترين؟ كان ذلك في صدر القرن الثالث عشر الهجري حينما بنى أحد أمراء بريدة هذه القبة التي لا يزيد قطرها على خمسة وعشرين متراً رصت الحوانيت على جوانبها وترك مركزها ساحة للعرض، وقد اكتسبت السوق اتساعاً عندما ضم إليها «سوق مهارش» محتفظة باسم القبة. ولما كان للناس فيما يعشقون مذاهب فمنهم من امتدح هذه السوق ومنهم من هجاها، وما زالت هذه النغمة سائدة في زماننا لأن الضد يظهر حسنه الضد والعكس صحيح، ولكن «قبة رشيد» تظل أثراً خالد الذكر ما تناقل الكتاب أخبارها واستشهدوا بما قيل حولها من شعر ليستحضر الباحث صور المجتمع في الأزمنة المتعاقبة، ولا أعتقد أننا نجد في شعر الفصحى أثراً لهذه القبة أدبياً أو اجتماعياً أو تأريخيا غير ما دونه الشعر الشعبي وحرضنا على البحث عن صاحب القبة. ومن النماذج التي قدم المؤلف حول هذه السوق أبيات لشاعر دعاه «أبو شليل» كان مغتربا فاشتاق إلى هذه السوق ومدينته بريدة فقال يشكو لأحد أصدقائه: يا بو علي جرحي يزيد ألعي مثل ورق الحمام أنا عن ديرتي بعيد ومن غربتي عفت المنام وجدي على قبّة رشيد ياما بها حلو الطعام وربما كان صدر البيت الثاني: «عن ديرتي انا بعيد» أو «عن ديرتي عايش بعيد» أو نحو ذلك ليستقيم الوزن، وعلى أية حال تلك مشاعر مشتاق لذكريات آسرة لم يغيّب الفقر جمالها مثلما شتت أصحابها بين ديار الغربة. أما شعر الطرافة والدعابة حول سوق «قبة رشيد» فإن الشاعر محمد بن عمار (1332 – 1405ه) يداعب صديقه ابن سعدون الذي كان يمتلك محلاً تجاريا في السوق قائلا: ليتني مثل ابن سعدون بقبّة رشيد كل غِرْوٍ يشوفه في المسا والصباح كل يومٍ يشوف التَّرْف عنق الفريد ويتبهَّج بشوفه كل ما اقبل وراح مداعبة تنقل لنا عادة متكررة لمن يغبط الباعة ويظن بهم الظنون، ولو كان الظن صحيحاً لما ربحت تجارتهم. وهي مداعبة لا تتعدى حدود النظر، ولا تصل إلى درجة الشك. وابن سعدون يستخدم في الرد أسلوباً أقرانه في دفع الاتهام بقوله: ما نلوم المولّع جرح قلبه يزيد زاد قلبه جروحٍ من ظْبَيّ البراح بو عزيّز تفضل مِنْتوين الشديد واستلم مني المفتاح وابغى الفلاح لا ينكر ابن سعدون ما تشهد السوق من طروق الجمال، ولكنه ينفي اهتمامه به فذلك لا يعني غير المولعين من أهل الهوى، ولكن ابن سعدون يقع في المصيدة دون أن يدري بقوله: «ظْبَيِّ البراح» فلهذا الأسلوب معناه «الله لا يلومه»، وظبي البراح «ظبَيّات الفلاة» ولهن وقع السهام في القلوب المرهفة. هل كان ابن سعدون صادقا في اعتزال التجارة؟ أم هي تقاليد ودفع اتهام؟ الله أعلم بالسرائر. وابن عمار من المولعين بقبة رشيد إذ يقول: ليتني ما جيت مع قبة رشيدِ ولا نظرت الزين يا زين الونيّة لابسٍ له مشلح توّه جديدِ تخلف العشاق بنت غشمريّة إلى قوله: راعي الدكان عطها ما تريدِ بع عليها ما تبي واكتب عليّه والله انى تايب ما اطري النشيدِ مير طاروق الهوى يبدي خفيه وقوله: ويتسمَّع صاحبي ما هو بعيدِ مير شوفة صاحبي عسرة عليّه تل قلبي تل سوّاق البريدِ في نفود العِرْق عجَّل في نويه هل كان الحدث كما وصف الشاعر؟ أم هو من هيام الشعراء الذين في كل واد يهيمون؟ لا شك أن ذلك من مبالغات الشعراء الذين ينتهزون الفرص ليشكلوا منها لوحات يلونونها بما أوتوا من احساس شفاف يجسدون به مشاعرهم لا قناع المتلقي بجسامة الحدث تشويقاً أو تهويلاً. لقد تلقى شاعر صديق أبيات ابن عمار فعمل على نقضها: يا نديمي واستمع ردٍ جديدِ وافتهم ما قلت يا شوق الغضيّة إلى قوله: طلبتك جبته ولو اني وحيدِ جَيْبها هيّن ولا يشكل عليّه لا تمثَّل لا تزرّى بالقصيدِ لا توهَّق كل يومٍ باجنبية بعد ابداء الاهتمام بطلب الشاعر في البحث عن اسرته يصاب بخيبة الأمل إذ لا يجد فيمن ذكر ابن عمار ما خلع عليها من وصف: رحت اجيب اللي تبي واثره معيد واحسايف عنوتي واثره رديّة متعبينه بالسواني والشديدِ خذ بداله بكرة توّه لقيّة إلى آخر الأبيات المحبطة، والتي يتجلى فيها أسلوب النقائض وربما قصد التخفيف من شغف ابن عمار. ونجد شاعراً آخر ينفّر من قبة رشيد وينصح صديقه البازعي بقوله: يا البازعي خل شوفك عن بريدة بعيد ان كان تقبل نصيحة واحدٍ جابها الفقر والغلمدة لا جيت قبة رشيد ما قط يومٍ دخلنا ما نشبنا بها ومن الأبيات الكاريكا تورية شاعر يصف صاحب حانوت: جعل جمشة بريدة دايمٍ ما تسيل من شرب ميَّها لقَّى رفيقه قفاه يوم شاهدت «بتلة» عند تمرٍ حويل لحيته فوقها الذبّان تسمع غناه قلت: ذي ديرة ما من وراها حصيل أنصح اللي بعيد ما بعد كد وطاه والله انى سليم من كثير وقليل مَيْر الايام ما احدٍ سالم من غثاه وبتلة كما يذكر المؤلف صاحب محل لبيع التمور كان يلعق دبس التمر باصبعه فيسيل على لحيته فيتجمع الذباب عليها، والصور الاجتماعية في هذه الأبيات واضحة وتحدث في كل المجتمعات. ومن يضع تلك الصور القديمة أمام صور بريدة اليوم يجد البون شاسعاً لما نالها من تقدم وتطور ورقي في الإنسان والعمران، فكل مكان ينبت الطيب طيب. رحم الله زمنا صبر وظفر وحفظ الله بلادنا آمنة مطمئنة.