يعود بنا كتاب الناقد الدكتور محمد سالم الصفراني الموسوم ب«نحو مجتمع المعرفة.. متطلبات التنمية الثقافية والأمن الفكري في المملكة العربية السعودية» والصادر مؤخراً عن نادي القصيم الأدبي، إلى مطلع الستينات الميلادية حيث طروحات الدكتور محيي الدين صابر المدير الأسبق للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، والتي انصبت كلها في برامج التنمية الثقافية وتطوير التعليم في العالم العربي وذلك عبر أكثر من كتاب أهمها: (التغير الحضاري وتنمية المجتمع) و(قضايا الثقافة العربية المعاصرة) وغيرها من كتب أخذت هذا المنحى، ثم ساد العالم العربي صمت مطبق لم تناقش فيه برامج التنمية الثقافية. وبعد ردح من الزمن يخرج الدكتور محمد الصفراني هذا الكتاب راسماً فيه أطراً وملامح للبنية الثقافية في المملكة محدداً كثيراً من المفاهيم والحلول الناجعة لازدهار الحراك الثقافي السعودي، وذلك عبر آليات متعددة مبنية على سياسة ثقافية تخدم متطلبات التنمية الثقافية، إلى جانب إلغاء بعض معوقات الأمن الفكري حتى لا يبقى محصوراً تحت خطاب الوصاية الفكرية، كما طرح المؤلف الصفراني المعوقات في مناهج مؤسسات التربية والتعليم وضرورة مراجعة فهمنا للقرآن الكريم والسنّة المطهرة في ضوء معطيات العصر. الكتاب يحمل في طياته نقاشات ساخنة بلغة علمية رصينة ومتزنة تفرض عليك محاورة هذا الكتاب الذي يستند إلى حقائق من الواقع الثقافي. «ثقافة الخميس» حاورت الدكتور الصفراني لتقدم للقارئ مشروعه الجديد. * ربطت متطلبات التنمية الثقافية في المملكة بتوفير الأمن الفكري، هل ثمة علاقة وطيدة بين التنمية الثقافية والأمن الفكري حتى يشكل جزءاً في ازدهارها؟ التنمية الثقافية جزء من التنمية الشاملة، وكل تنمية تحتاج نوعاً خاصاً من الأمن، فالتنمية الاجتماعية تحتاج الأمن الاجتماعي الذي لا يستتب إلا بوجود متطلباته الأساسية ممثلة في وزارة الداخلية بأجهزتها كافة مثل قوى الأمن العام والدفاع المدني وغيرها، والتنمية الصحية تحتاج الأمن الصحي الذي لا يستتب إلا بوجود متطلباته الأساسية ممثلة في وزارة الصحة بأجهزتها كافة مثل المستشفيات والمختبرات والأطباء والدواء وغيرها، وقس على ذلك، وبما أن التنمية الثقافية تستهدف الأفكار فإنها تحتاج الأمن الذي يحمي الفكر من الاختطاف أو يحاول النيل منه بتصنيفه تصنيفاً كيدياً أو عقدياً أو مذهبياً أو إحباطه وشل قدراته وتبديد طاقاته، من هنا ربطت التنمية الثقافية بالأمن الفكري؛ لأنه يوفر للتنمية الثقافية المناخ المناسب لتحقيق نموها وازدهارها وأمنها مثلما يوفر وجود أجهزة وزارة الداخلية الأمن الاجتماعي، ويوفر وجود أجهزة وزارة الصحة الأمن الصحي، وبهذا يصبح الأمن الفكري أحد أبرز وأهم أسس ومتطلبات التنمية الثقافية في المملكة العربية السعودية. * ما متطلبات التنمية الثقافية في المملكة العربية السعودية التي طرحتها في كتابك؟ متطلبات التنمية الثقافية التي يحتاجها المشهد الثقافي في المملكة العربية السعودية لملء فراغه ودفع عجلة التنمية الثقافية فيه هي: إحداث المجلس الثقافي الأعلى، وإحداث وزارة البحث العلمي، وإحداث وزارة الثقافة وما يتبعها من إلحاق بعض القطاعات الثقافية بها وانفصال البعض الآخر عنها، وإحداث المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وإحداث الهيئة السعودية العامة للكتاب، وإحداث اتحاد الكتّاب السعوديين، وإحداث صندوق التنمية الثقافية على غرار صندوق التنمية العقارية فبناء الساكن لا يقل أهمية عن بناء المساكن تماماً مثلما أن بناء الساجد لا يقل أهمية عن بناء المساجد، وتحويل الأندية الأدبية إلى مراكز ثقافية تضم فروعاً للوزارات والمؤسسات والجمعيات الثقافية المعروفة بمتطلبات التنمية الثقافية، وإنشاء البنية التحتية للثقافة مثل: تنفيذ مقار المكتبات الوطنية في كل المحافظات والمدن السعودية وتزويدها بأحدث الإصدارات في مختلف جوانب المعرفة إلى جانب الكوادر البشرية الإدارية المدربة. وتنفيذ مقار المتحف الوطني في العاصمة السعودية وفي المدن الرئيسية في محافظات السعودية بصورة تعكس ما تتميز به كل محافظة على حدة وما تشترك به مع بقية المحافظات. وتنفيذ مقار دور العرض السينمائي والمسرحي وتزويدهما بما يحتاجانه من تجهيزات شريطة التزام ما يعرض فيهما بحدود المقبول شرعاً. وقد فصلت القول في كل مطلب من المطالب مبيناً أهدافه وآليات تنفيذه، وكيف أن دولاً صغيرة سبقتنا إلى توفير هذه المتطلبات التي أدى غيابها عن المشهد الثقافي السعودي إلى تخلفه وإلى ظهور آفات كثيرة أبرزها آفتي التطرف والإرهاب. * ما مرد غياب متطلبات التنمية الثقافية في السعودية؟ وألا يمكن للأندية الأدبية والجمعيات الثقافية رفد هذا الغياب؟ يرجع غياب متطلبات التنمية الثقافية في السعودية إلى غياب السياسة الثقافية حيث لا توجد في السعودية سياسة ثقافية مخصصة كما هو الحال بالنسبة للسياسة التعليمية والسياسة الإعلامية، وقد أدى ذلك إلى فراغ كبير في بنية المشهد الثقافي السعودي ساعد على تكوين ما يعرف بالشعوب البديلة وهي تلك الشعوب التي يمكن لأجهزة الاتصال الحديثة ومن يهيمن عليها أن تخلق فيها قيماً ومفاهيم مناقضة ومناهضة لسلطة الدولة القائمة، وقوائم المطلوبين تحت جرائم الإرهاب خير شاهد على وجود الشعوب البديلة في السعودية. وما يؤكد غياب السياسة الثقافية وعمق الفراغ في المشهد الثقافي وغياب التنمية الثقافية في السعودية أن الاهتمام بالفكر الثقافي المؤسسي في السعودية لم يبدأ إلا في عام 2004م حيث تم في هذا العام تغيير اسمى وزارتين سعوديتين لهما دور كبير في صناعة الثقافة هما: وزارتا الإعلام والمعارف فغير اسم وزارة الإعلام إلى وزارة الثقافة والإعلام، وغير اسم وزارة المعارف إلى وزارة التربية والتعليم، وهذان التغييران يدلان دلالتين رئيستين الأولى: دلالة مضمونية هي جدة الشعور بأهمية الفكر الثقافي المؤسسي الموجه، والأخرى: دلالة زمنية هي تأخر الشعور بأهمية الفكر الثقافي المؤسسي الموجه في السعودية، وبالرغم من تأخر التفكير الثقافي المؤسسي في السعودية أكثر من مائة عام إلا أن تجسيداته على أرض الواقع تسير ببطء شديد لا يعوض عن غيابه الطويل. أما الأندية الأدبية والجمعيات الثقافية في صورتيها الحالية فاعتقد أنها لا تسد واحداً في المئة من الفراغ الثقافي الذي يعاني منه المشهد الثقافي السعودي. * في رأيك، إلى ماذا يعود عدم وجود سياسة ثقافية مخصصة في المملكة على الرغم من شيوع مفهوم السياسات كالسياسة التعليمية والسياسة الإعلامية؟ توجد في المملكة سياسة تعليمية وسياسة إعلامية مكتوبة وعند محاولة الجهات التعليمية أو الإعلامية وضع خطط وبرامج تعليمية أو إعلامية يعودون إلى تلك السياسات المكتوبة وينطلقون من أطرها، وإن كانت وثيقة السياسة التعليمية قديمة بمعنى أنها كتبت منذ عام 1389ه أي قبل التحاقي بالمدرسة الابتدائية بست سنوات ولم تتغير وتواكب العصر حتى يومنا هذا إلا أنها موجودة، وكذلك الإعلامية، أما معنيته من عدم وجود سياسة ثقافية في السعودية فهو عدم وجود وثيقة مكتوبة للسياسة الثقافية مثل ما هو موجود في التعليم والإعلام، وأظن أن غياب هذه الوثيقة يعود إلى أن مفهوم الثقافة في حد ذاته مفهوم مراوغ ومتعدد بعدد الذين كتبوا في الشأن الثقافي، أو قد يعود إلى أن المفهوم السائد للثقافة في السعودية هو التدين وتم الاكتفاء به كمفهوم وكثقافة سائدة ومعززة وقوية وبالتالي لا تحتاج إلى مؤسسات أكثر من منابر خطبة الجمعة وحلقات التحفيظ وما شابه ذلك وهي أمور مهمة وأساسية في كل زمان ومكان ولكنها ليست كافية كمؤسسات ثقافية إذا جاز لنا أن نطلق عليها مؤسسات، أو قد يعود غياب السياسة الثقافية في السعودية إلى غير ذلك، في الحقيقة لا استطيع تقديم اجابة محددة في هذا الشأن لأنني اعتقد ان خير من يجيب على هذا السؤال هو صانع القرار. * برأيك ما معوقات الأمن الفكري؟ وما دعائمه؟ ناقشت معوقات الأمن الفكري في السعودية ودعائمه ووجدت أن معوقات الأمن الفكري في السعودية هي معوقات للتنمية الثقافية في آن واحد وتتمثل في: التنصل الفكري، والتصنيف الفكري، ومناهج مؤسسات التربية والتعليم بفرعيها: المنهج الخفي، والمنهج الرسمي، وتغييب الفهم تفعيل فهم الفهم، وضعف التفاعلية الثقافية. وفي المقابل وجدت أن دعائم الأمن الفكري في السعودية هي دعائم للتنمية الثقافية في آن واحد وتتمثل في توحيد مرجعية الفتوى، وتجريم التصنيف الفكري والتكفير، وإصلاح مناهج مؤسسات التربية والتعليم بفرعيها الخفي والرسمي، ومراجعة فهم القرآن الكريم والسنّة المطهرة في ضوء معطيات العصر، والحرية الأكاديمية. * قرابة تسعين عاماً من صناعة الإعلام والمعرفة قطعتها المملكة منذ إنشائها جريدة أم القرى عام 1343ه وصدور جمهرة من الكتب الأدبية والدينية ودعم البعثات العلمية وفتح المدارس والمعاهد والكليات وتأسيس الإذاعة والتلفاز، كل ذلك لا يمنحنا أن نكون مجتمعاً معرفياً؟ ما تفضلت به في سؤالك يدخل ضمن قنوات نشر المعرفة وهذه الأجهزة والقنوات نفسها موجودة في كل دول العالم تقريباً ولو كان مجرد وجودها في حد ذاته يوصل إلى مجتمع المعرفة لكانت جميع دول العالم تدخل في اطار مجتمع المعرفة، إن ابتكار التكنولوجيا شيء واستعمالها شيء آخر، فالمسألة أكبر وأعمق من مجرد وجود التكنولوجيا إنها بايجاز القدرة على الخلق والابتكار والبحث العلمي، الذي يتمثل على الصعيد التكنولوجي في القدرة على تحويل البحث العلمي إلى جهاز مبتكر يدر دخلاً مادياً وينشر ثقافة معينة في آن واحد، دعني أضرب لك مثلاً على التحول إلى مجتمع المعرفة على الصعيد التكنولوجي: فمثلاً سعر طن الحديد الخام لا يتجاوز الألف دولار لكن تحويله إلى سيارة تباع بأكثر من مائة ألف دولار أمر لا يمكن حدوثه إلا في مجتمع معرفي، أما التحول إلى مجتمع المعرفة على الصعيد الثقافي والعلوم الإنسانية والآداب والفنون تحديداً فله صور متعددة وأمثل له هنا بصناعة الدراما فإبداع الرواية أو المسرحية وتجديد تكنيكاتها وتطويرها أمر لا يمكن صدوره إلا عن مبدعين خلاقين يملكون التأسيس الإبداعي والمعرفي القوي، وإبداعهم للعمل الإبداعي يعني توفيرهم خامات إبداعية قابلة للتصنيع بمعنى تحويلها إلى أفلام سينمائية ومشاهد مسرحية تنشر وعياً وثقافة وتدر دخلاً مادياً مثلها مثل المبتكرات التكنولوجية، فأين نحن من المبتكرات التكنولوجية والابداعية؟! * ألا ترى أن العمل الثقافي لا يقاس بالنواحي المادية؟ شخصياً لا أركز على المردود المادي في العمل الإبداعي برغم أهميته فالابداع في ذاته ومن أجل ذاته قيمة لا تقدر بثمن لكنني أركز في الدرجة الأولى على جانب التثقيف ونشر الوعي الذي من شأنه نقل البشر إلى فضاء أرحب وفك الاختناقات والاحتقانات الثقافية، نحن نعيش عالة في كل المستويات ثقافياً وتكنولوجياً وإبداعياً، وبالرغم من أننا نعيش في عصر الصورة البصرية والعالم الأول يعي هذه الحقيقة ويدرك أثرها أكثر منا لكننا لم نحرك ساكناً!، وأكبر دليل على عمق أثر الصورة في عصرنا ما نتج عن صور محمد الدرة وسجناء أبو غريب وغوانتنامو من ردود أفعال وتبعات لا تقدر كل المقالات والروايات والقصائد والخطب والوسائل الفنية التقليدية على إحداثها ما لم تترجم إلى لغة العصر الصورة المتحركة ومن يعتقد أنه بقصيدة نارية يحرق إسرائيل ويخدم القضية الفلسطينية أو برحلة دعوة إلى الإسلام يضيف إلى القضية أو الإسلام أكثر مما يضيف إليهما فيلم ناجح هو خارج اللعبة وخارج العصر، إننا ما زلنا نقدم الآداب والفنون والدعوة إلى الله سبحانه بساليب عفا عليها الزمن ولا تستحق الوقت الذي يصرف في إعدادها أو تلقيها لأنها عديمة الجدوى، كما أنه على صعيد البحث العلمي في مجال العلوم الإنسانية لم يقدم العرب عموماً نظرية نقدية أو اجتماعية أو سياسية يمكن أن تنهض بالشعوب والمجتمعات العربية كتلك النظريات التي قدمها مفكرو ومبدعو العالم الأول وحققوا من خلالها لمجتمعاتهم نقلات نوعية رائعة على كافة المستويات. * هل تم استغلال مفهوم الوصاية الفكرية وحظر التجول الفكري من قبل الرقيب تحت مسمى تحصين النشء وحفظه من الأفكار الهدامة؟ من الأمور الأساسية التي حذرت منها في مقاربتي لموضوع الأمن الفكري هو أن الأمن الفكري مفهوم ذو حدين قد يستعمل ويوظف للحجر الفكري وحظر التجول الفكري وقد يوظف لاطلاق الطاقات الفكرية من محابسها ولذلك تعمدت تقييد مفهوم الأمن الفكري بإطلاق الطاقات الفكرية الخلاقة من محابسها فحاصرت المفهوم بصياغة قانونية محكمة وخالية من الثغرات لكي لا يصبح قابلاً للتأويل لصالح الحجر الفكري، لأن حجة التحصين مطبة الرقباء في كل زمان ومكان وقد حرمت هذه الحجة الثقافة السعودية من كثير من المسائل والنقاشات المفيدة، يا أخي نحن نعيش في عصر القرية الكونية فأي مصل فكري يستطيع وقاية الناس من الأمراض الفكرية الهدامة؟! لا شيء أنجع من الانفتاح الواعي والمتابعة والحوار والثقافة، ألا ترى أن بعض أبناء الأسر المسلمة التي تعيش في الغرب يلتزمون بالقيم الدينية بالرغم من أن كل المغريات متاحة لهم وبرعاية وحماية النظام؟ وفي الوقت نفسه ألا ترى أن بعض أبناء الأسر المسلمة في الدول الإسلامية ينحرفون بالرغم من وجود المساجد والمناهج الدينية والمجتمع المسلم؟ هنا تتضح أهمية وقيمة الانفتاح الواعي والمتابعة والحوار والثقافة، ولذا فإنني أرى أننا بحاجة إلى معرفة كل شيء والتعامل معه بما تأسسنا عليه من قيم وأخلاق، وهذا التأسيس لا يمكن أن يتم إلا من خلال متطلبات التنمية الثقافية التي دعوت إلى ايجادها فلا يفل الفكر إلا الفكر ولا يصنع التعايش الفكري السلمي إلا الحوار وقد أدركت الدولة أهمية الحوار ورعته أيما رعاية حتى أصبح الحوار مصطلحاً كونياً سعودياً تتناقله الأوساط السياسية والثقافية في أكبر دول العالم، وقد أشادت معظم الدول المتقدمة كأمريكا وأبرز دول أوروبا بتجربة المناصحة السعودية كصورة مشرقة من صور الحوار الفكري الراقي في إعادة معظم عناصر الفئة الضالة إلى الجادة الصحيحة، والمناصحة في وجهة نظري هي من باب فل الثقافة بالثقافة من خلال آلية الحوار والنقاش والإقناع بالحق والفكر. * التصنيف الفكري أس معوقات الأمن الفكري ويدعو إلى الصدام الفكري، هل واجهت ثقافتنا بعضاً من هذا التصنيف؟ التصنيف الفكري والتقارير الكيدية والعقدية والمذهبية وجهان لعملة واحدة، وقد عانت ثقافتنا الأمرين من هذا المعوق الآفة، ومن يقرأ تواريخ الأوساط الدينية والأدبية في السعودية يجد التصنيفات الفكرية والتقارير الكيدية من أبرز معوقات الأمن الفكري ومن أبرز أسباب الصدام الفكري، وما حدث في نادي الباحة الأدبي مؤخراً غيض من فيض ودليل حي على ذلك، لكن ما يحمد في الآونة الأخيرة هو ظهور وعي بضرورة وأد هذه الظاهرة المقيتة ونبذ كل من يقترفها وهذا ما جسده معالي وزير الثقافة والإعلام في موقفه من قضية نادي الباحة الأدبي ولهذا دعوت إلى تجريم التصنيف الفكري والمذهبي بقصد العزل وجعلته متطلباً من متطلبات التنمية الثقافية والأمن الفكري في المملكة العربية السعودية وفي كل بلد يأمل في نهضة ثقافية صحيحة. * كيف تفسر مقولتك: إن تأمل الثقافة الدينية السائدة ينم عن أحد معوقات الأمن الفكري والتنمية الثقافية؟ يتمثل ذلك في تغييب الفهم وتفعيل فهم الفهم وهذا نتيجة حتمية لاغتيال العقل من قبل مؤسسات التربية والتعليم في منهجيها الخفي والرسمي، والمقصود من تغييب الفهم وتفعيل فهم الفهم: حجب العقل عن التواصل المباشر مع القرآن الكريم والصحيح من السنّة النبوية المطهرة من خلال إقامة جدار من فهم السلف يحجبه عن التواصل المباشر مع نصوص الكتاب والسنّة علماً أن القرآن والسنّة لا يخاطبان السلف الصالح وحدهم وإنما يخاطبان البشرية في كل زمان ومكان. ولا أود أن يفهم من فكرتي أنني أدعو إلى قطع الصلة بكتب السلف الصالح رضوان الله عليهم فلم أقصد إلى هذا على الاطلاق بل ما أقصده هو عدم جعل تلك الكتب حائط صد بين العقل وبين التواصل المباشر مع الكتاب والسنّة فالسلف رحمهم الله قدموا فهمهم للنصوص الشرعية وفق مقتضيات أزمنتهم وأمكنتم التي لها من الواقع والوقائع والمتغيرات ما يختلف عن واقعنا ووقائعنا ومتغيراتنا ومن هنا يكون تفعيل فهم السلف هو نوع من أنواع تغييب النصوص الشرعية الأصلية، فنصوص السلف أصبحت بمثابة النصوص المقدسة عند كثيرين ولا يخفى ما في هذا التقديس من تنكب الطريق السليم وإيكال أمر الأمة في دينها ودنياها إلى الأموات يفكرون لها ولا تفكر لنفسها؛ لقد خصوا الموتى بمهمة التفكير للأحياء حتى ولو كان تفكيرهم هذا قد ارتبط بأحكام تخلفت شروط أعمالها، أو بعادات تغيرت، أو بأعراف تبدلت، وتنحصر مهمتها في ترداد ما قيل في القرون الخوالي ولهذا صار كل فهم للدين قديم حجة على الناس وإن كان متأثراً بمزاج صاحبه وخصوصيته الزمانية والمكانية والنفسية، وهذا واقع مخل بالأمن الفكري ومعيق للتنمية الثقافية ولم أدع إطلاقاً إلى إعادة تفسير القرآن الكريم بل إلى مراجعة الفتاوى الشرعية القديمة التي ما زالت تعمل برغم تغير ظروفها والمراجعة أمر مطلوب في كل شيء. * حين يهيمن الخطاب الثقافي الواحد ألا تتوقع منه أن يخل بمفهوم التوازن الثقافي، بل ويعرقل متطلبات التنمية الثقافية؟ وهل وقعت هيمنة من هذا النوع؟ يعد التوازن من المفاهيم المهمة في البرامج التنموية عموماً، وتحتاج التنمية الثقافية التوازن والديمومة شأنها في ذلك شأن بقية التنميات، وإذا أردنا أن نحقق التوازن الثقافي في السعودية فلا بد لنا من طرح موضوع التنمية الثقافية لما ينطوي عليه من استثمار ايجابي للتعددية الثقافية والفكرية التي تستطيع إخراج المشهد الثقافي السعودي من حالة الارتهان إلى الخطاب الثقافي العمودي الواحد إلى فضاء الانتشار عبر الخطاب الثقافي الأفقي المتعدد الذي يتيح لوجهات النظر أن تتباين وتتلاقى وتتحاور في أطر من الوعي بقدسية الدين الإسلامي وسمو وحرمة الوطن والمواطن، عندئذ يخلق التوازن الثقافي المنبثق عن التنمية الثقافية ومؤسسات تنفيذها حالة من الوعي والتطور المتمثل في خصائص مجتمع المعرفة، كما يخلق التوازن الثقافي حالة من التسامح الثقافي المفضي إلى الأمن الفكري، فهيمنة خطاب ثقافي واحد على أي مشهد ثقافي من شأنه أن يخل بمفهوم التوازن الثقافي ويعيق مشروعات التنمية الثقافية المستدامة ويعرقل الوصول إلى مجتمع المعرفة. وقد تعرض المشهد الثقافي السعودي للهيمنة الثقافية الأحادية فترة طويلة من الزمن كادت تشله تماماً ولا أرى سبيلاً إلى الخروج من اطار الهيمنة إلا من خلال متطلبات التنمية الثقافية والأمن الفكري التي طرحتها. * حمل كتابكم تسعة متطلبات ثقافية لإنجاح صناعة الثقافة، ألا ترى أن بعضها في عداد المستحيل؟ من لا ينشد المستحيل لا يحصل على الممكن، هكذا علمتني تجاربي المتواضعة، واعتقد أنه لا يوجد مستحيل في ظل الطموح الخلاق والإرادة القوية والامكانات الهائلة والتوجه السياسي العام نحو الحوار الوطني وحوار الأديان وفك اختناق الهيمنة الفكرية، فهل يستحيل على بلد بحجم المملكة العربية السعودية قيادة وشعباً أن توفر متطلبات التنمية الثقافية التي طرحتها وهي موجودة في بلدان عربية أصغر من السعودية من حيث المساحة وعدد السكان والتنوع المذهبي والامكانيات المادية والبشرية والفكرية؟ أتصور أننا قادرون ببفضل الله ثم بحنكة قيادتنا وما ينعم به بلدنا من خيرات ومجتمعنا من طاقات فكرية وبشرية هائلة على توفير كل متطلبات التنمية الثقافية والأمن الفكري في المملكة العربية السعودية.