لا شك أن لبنان بتحدي المعاصرة الذي أغرته بها بقوة تركيبته المسيحية - الإسلامية، الغربية - الشرقية أصبح مؤهلاً ليكون حقل دراسة عربية عامة على طريق التمييز بين الأخذ الصحي من تقدم الغرب والانصياع لمصالحه التي ليست هي بالضرورة مصالح المنطقة التي لبنان جزء لا يتجزأ منها. جاءت زيارة الوزير الفلسطيني ياسرعبدربه إلى لبنان في فترة التعزية الحاشدة في إحدى كنائس لبنان، كنيسة مار جريس الارثوذوكسية، بمجموعة من أبنائه سقطوا على أرضه بالاغتيال الغادر، تشرح دون شرح وفاء فلسطين لما قدمه لبنان للقضية العربية الأولى. فجورج حاوي ومروان حمادة وسمير قصير وباسل فليحان، يتقدمهم رفيق الحريري، يمثلون تلك الصفحة اللبنانية المشرقة من العطاء للعرب وقضاياهم الممتدة من أوائل النهضة والمستمرة حتى اليوم. وحسب ما قال أحد رؤساء الحكومات اللبنانية الراحلين تقي الدين الصلح: «لقد تفانى لبنان في العطاء للقضية الفلسطينية حتى فنى أو كاد». وهذا ما يقر به للبنان كل منصف وما أخذ ياسر عرفات يلهج به حتى آخر عمره. كذلك قبله الحاج أمين الحسيني نزيل لبنان في مرحلة النضال الفلسطيني الأول، إذ كان الاجماع اللبناني منذ ذلك الوقت خير حام له من المحاولات الصهيونية لقتله في لبنان. بعض ما يسجله التاريخ أن سليمان البستاني الوزير اللبناني في بلاط السلطان العثماني عبدالحميد الثاني كان صاحب أول وأرفع مرافعة من نوعها في خطر التساهل مع الاستيطان اليهودي في فلسطين، إذ وقف في وجه نظرية عثمانية مطروحة إذ ذاك لمسايرة اليهود لقاء أخذ معونة اقتصادية تحتاجها الدولة العلية في حينه. مثل هذا فعله على طريقته منظر القوميةالعربية الشهير نجيب عازوري الذي تنبأ منذ أيام سكناه في فلسطين بأن القرن العشرين كله سيكون مشغولاً بصراع القومية العربية مع الصهيونية. وبالمناسبة لا ينسى أحد كلمة ابي عمار - يرحمه الله - في مؤتمر قمة عربي منعقد في الجزائر، فأمام كل الملوك والرؤساء العرب قال فرنجية بأعلى صوت: «إن هذا وحده (مشيراً إلى الرئيس اللبناني سليمان فرنجية) كان صاحب الفضل الذي لا ينسى على القضية الفلسطينية». والمقصود طبعاً لبنان حكومة وشعباً. ولا ينسى مؤرخ منصف للمقاومة العربية ضد الصهيونية الصحافي اللبناني نجيب نصار الذي أسس في حيفا جريدة رائدة في زمانها مخصصة في كاملها لفضح التآمر الاستعماري الصهيوني على فلسطين، وقد اغتيل مطران حيفا للروم الكاثوليك المطران الحاج من بلدة قتيولى قرب جزين بيد الصهاينة معاقبة له على مواقفه العربية الرائدة في فضح الأطماع اليهودية. في الحاضر اللبناني كان من المبادرات الوفية للشعب الفلسطيني المناضل والمشرف في كل أصقاع العالم، قرار وزير العمل اللبناني بالسماح للفلسطيني العمل في لبنان. ولاقت الخطوة ارتياحا واسعاً في الأوساط السياسية الشعبية الفلسطينية التي اعتبرتها بداية و مدخلاً لمعالجة مشكلات اللاجئين، وصولاً إلى إقرار حقوقهم المدنية والاجتماعية ودعم صمودهم في مواجهة التوطين. وقبل قرار وزير العمل طراد حمادة، كان ولا يزال يعاني الآلاف من العمال الفلسطينيين من البطالة والفقر ومعظمهم يزاول حرفاً يدوية أو أعمالاً موسمية أو يعمل مياوماً في أشغال صعبة وشاقة مثل البناء والزراعة. وتزداد بصورة ملحوظة نسبة البطالة بين الفلسطينيين من حملة الشهادات الجامعية. والآن أصبح بامكانهم العمل في عدد كبير من الوظائف كانت محرمة عليهم. ونفى الوزير حمادة ما تردد عن أن قرار وزارة العمل مقدمة للتوطين. واعتبر أن هذا الكلام «غير منطقي وفيه الكثير من الخبث». وتساءل: «هل إذا جاع الفلسطينيون يصبح في إمكانهم العودة إلى بلادهم؟». والواقع أن الرأي الفلسطيني تحول بنتيجة التعامل الطويل والحي مع الواقع إلى خبرة رائدة في كيفية التعامل مع لبنان. إن كل عربي يستطيع أن يأخذ دروساً كثيرة في كيفية التعامل مع لبنان من الفسطينيين، ومن التجربة اللبنانية - الفلسطينية، خصوصاً وأنها اجتازت مرحلة المرارات. إن معظم اللبنانيين ناقمون على تصريح شهير صدر عن أبي عمار يقول فيه إنه «حكم لبنان كذا من السنين». بقطع النظر عن الجانب الكاريكاتوري في هذه الكلمة، وربما النرجسي أيضا، وبالتالي المستهجن فإن فيه مع ذلك جانباً يمكن أن يفيد، فحواه أن معرفة العرب الحسية والحية في الوضع اللبناني يمكن أن ترشد الحاكم العربي وترسم فارقاً نوعياً بين التعاطي مع لبنان ومعرفة شؤونه عن كثب والغرق في شؤونه وزواريبه ووحوله كما حصل في أكثر من حالة. والواقع أن خطأ السياسة العربية مع لبنان وبينها الفلسطينية في وقت من الأوقات، يمكن تحويله إلى مؤشر ترشيد للسياسة العربية عامة نحو بلد صغير أخ معتز، متأثر بجبلة المعاصرة والحداثة الغربية، بلد عربي الوجه يستسيغ الخير النافع من حضارة الغرب، كما وصفه رياض الصلح في أول بيان وزاري له في حكومة الاستقلال عام 1943. لا شك أن لبنان بتحدي المعاصرة الذي أغرته بها بقوة تركيبته المسيحية - الإسلامية، الغربية - الشرقية أصبح مؤهلاً ليكون حقل دراسة عربية عامة على طريق التمييز بين الأخذ الصحي من تقدم الغرب والانصياع لمصالحه التي ليست هي بالضرورة مصالح المنطقة التي لبنان جزء لا يتجزأ منها. لقد تعلم الفلسطينيون كثيراً من وجودهم في لبنان، وأبو عمار من أوائل الذين تعلموا في لبنان ومن لبنان، وإن كان هو أيضاً قد أخطأ كثيراً وأضَر كثيراً في لبنان أيضا. أول ما تعلمه أبو عمار من لبنان هو كيفية توظيف التنوع داخل المجتمع، وأحياناً التناقضات في سبيل المضي إلى الأمام. والأخذ للنفس من أقوياء هذا العالم. يكون أبو عمار ارتكب آخر خطأ إذا كان قد ذهب من هذه الدنيا راضياً كل الرضى عن فعله في لبنان. ولكنه يكون مستفيدا كل الفائدة إذا هو فهم لبنان من منظور قول الشاعر القائل مرة «وتحسب أنك جرم صغير وفيك أنطوى العالم الأكبر». وبالفعل لو أخذنا بعيداً وعميقاً في فهم الصراع العربي - الفلسطيني لوجدنا أن العقدة الكبيرة فيه كيف تكون أنت العربي - الفلسطيني الأجود نوعاً بملكيتك للحق، وتمسكك بالقيم وانفتاحك على قيم العالم، وليس الأقدر على تخريب مصالحه فقط. عليك أن تنافس أيضاً لا أن تقاتل فحسب رغم شرف القتال وصدق مشروعيته. إن الوزير الفلسطيني ياسر عبدربه بكونه رجل رأي وثقافة، هو من الفلسطينيين دعاة منافسة الغرب في مزاياه أيضاً، وليس القادر على الوقوف ضد اطماعه فقط. وذكّر من خلال زيارته إلى لبنان، وبالمناسبة التي كانت الزيارة بسببها، بالحقيقة السياسية التي تقول إن لكل عربي وطنين لهما عليه حق الولاء. وطنه الخاص الذي يعيش فيه ويدرج على أرضه وتحت سمائه سواء كان لبنان أو فلسطين أو العراق أو مصر أو الجزائر أو المغرب أو اليمن أو السعودية أو سورية، فإن له وطناً آخر كبيراً جامعاً لكل هذه الأوطان غير متناقض مع أي واحد منها و الوطن العربي الكبير. ولقد درجت الأيديولوجية القومية على تسمية الوطن الصغير بالقطر، وتسمية الوطن الكبير بالوطن. لكن الشعوب فضلت وتفضل أن تتعامل مع حيث التطبيق أنها ملزمة بالولاء المتساوي للاثنين معاً من حيث المبدأ. وقد ساهمت الدول الاستعمارية الكبرى بسوء تعاملها مع الدول العربية جميعاً في اقناعها جميعاً أيضاً بضرورة التصرف على أساس المصير العربي الواحد. وجاءت وسائل الاتصال النامية بسرعة، وعلى اختلافها على تنمية هذا الإدراك. ولعل لبنان هو أكثر البلدان العربية خبرة بالتفاعل الموضوعي بين كل ما يصيب العرب ككل من إسرائيل، وبين ما يصيب البلد الواحد. فقبل أن تقوم إسرائيل، كان اللبناني يسافر بالقطار إلى مصر، وبه يعود منها إلى لبنان. وقد استقل لبنان عن فرنسا قبل أن يتوقف القطار الذي يصل لبنان بمصر عبر فلسطين. ولم تكن المواصلات بواسطة القطار بين مصر ولبنان أصعب من الطريق الموصل بين بيروتودمشق. كان القطار يتوقف في بيروت فينزل منه طه حسين أو مي زيادة أو آسيا داغر أو ماري كويني الذاهبتين إلى تنورين بلد بطرس حرب. وكان المصريون من أصل سوري يأتون إلى بيروت ثم يأخذون من بيروت إلى دمشق أو حلب. كانت سكة الحديد وفلسطين ما قبل إعلان إسرائيل، واصلة بين لبنان وسوريا من جهة، ومصر من جهة ثانية. وبالأمس القريب، كانت زيارة وزير خارجية فلسطين إلى لبنان ظاهرة وفاء فلسطيني لبلد الأرز. لبنان وفلسطين وطنان عربيان متجاوران متشابهان في الكثير من الأشياء. السفريات بالسيارات تحمل ملاكاً لبنانيين في الأرض الفلسطينية خسروها في غزوة الصهيونية لها. وقسم كبير من أهل جنوب لبنان كانوا يعيشون في حيفا وغيرها من المدن الفلسطينية. الحي السرسقي بعائلاتها الارثوذوكسية البيروتية السبع كان يملك حيزاً كبيرا من فلسطين، وكانت أثواب الفلاحات الفلسطينيات المزركشة، تعرض كمنتوجات محلية عربية مميزة في المتاحف والمعارض اللبنانية. رياض الصلح وشيخا النبطية البارزان أحمد رضا وسليمان الظاهر اشتركوا في انتخاب الحاج أمين الحسيني زعيماً عربياً إسلامياً على فلسطين. لم يبع سكان الحي السرسقي من ملاك الأرض في فلسطين شبراً واحداً للصهاينة. غريب هذا البلد اللبناني الموصوف من بعض أهله بالانعزالية عن بعض العرب، والموصول قبل كل عربي بالقضية الفلسطينية. كل هذا حضر بروعته وجماله وجلاله عبر مشاركة رموز الدولة الفلسطينية واحداً بعد الآخر، بدءاً بأبي مازن وصولاً إلى ياسر عبده ربه، لبنان أحزانه واعتزازه معاً بالرموز الغالية التي استهدفها الصهاينة وأنصارهم العلنيون والمستترون.. الرموز التي لم تفرق في نضالها بين حق لبنان عليها وحق فلسطين. كتب علينا في لبنان وفلسطين والبلاد العربية أن نحزن معاً كما رأينا في كنيسة مار جريس. فمتى يكون اليوم الذي نفرح فيه معاً كعرب بوطن الأقطار الحرة وبينها فلسطين التي كانت ولا تزال قضية العرب الأولى والأهم والأكثر جمعاً للصفوف .