هذا العنوان ليس لي، بل هو مُرتبط بعنوان كُتَيّب يحتوي أرجوزة الإمام السيوطي - رحمه الله - التي ألّفها كي تتضمن أسماء الكلاب، وأراد فيها أن يجمع أكثر من سبعين اسماً، حتى يحفظها من لا يريد أن يكون كلبا في نظر أبي العلاء المعري . وقد استعرنا هذا العنوان من الإمام السيوطي؛ لأن موضوع المقال مرتبط بفكرته؛ قدر ما هو مرتبط برهين المحبسين ذاته - رحمه الله - كعلامة فارقة في تاريخ الفكر العربي القديم . ما يهمنا في هذا السياق، هو الجدية المعرفية التي توفر عليها المعري، أخذه الكتاب بقوة . هناك قصص تروى عنه، قصص أشبه بالأساطير، ولكنها حقائق واقعية، إذ تحكي بعض هذه القصص أنه كان يحفظ ما حوته مكتبة طرابلس الشام في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، وأنه كان لا ينسى شيئا قرأه أبدا اشتهر أبو العلاء المعري بأنة كان آية في الذكاء، وليس في الحفظ فقط؛ كما كان يُشاع . وهذا يُعرف من إبداعه ومن ابتداعه . ويستطيع إدراكه كل من اطلع على مستويات الجدل المعرفي التي كانت تتخلل كتبه بلا استثناء؛ فضلا عن مستويات الإبداع الأدبي التي جعلته في الصف الأول من مبدعي العربية، بل ربما جعلته (رسالة الغفران)، ورسالة (الصاهل والشاحج) في صف مبتدعي / مجترحي الأجناس الأدبية . وهذا ما يميل إلى ذلك بعض الباحثين في مجال الأدب المقارن. ما يهمنا في هذا السياق، هو الجدية المعرفية التي توفر عليها المعري، أخذه الكتاب بقوة . هناك قصص تروى عنه، قصص أشبه بالأساطير، ولكنها حقائق واقعية، إذ تحكي بعض هذه القصص أنه كان يحفظ ما حوته مكتبة طرابلس الشام في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، وأنه كان لا ينسى شيئا قرأه أبدا . وبما أنه كان (كما تدل على ذلك كثير من القصص، وكما يعكسه تراثه) آية في القدرة على استيعاب ما يقرأ، وبما أنه كان ينطوي على جمرة المعرفة بين جوانحه؛ فقد رأى أن ليس في مكتبات الشام ما يمكن أن يضيف إليه، ليس ثمة جديد لم يقرأه، ومن ثم تاق إلى زيارة بغداد، إذ تصور أن مكتباتها العامرة بمئات الآلاف من الكتب لابد أن تفتح عقله على آفاق جديدة لم يحلّق عقله في سماواتها من قبل. ولهذا السبب كانت بغداد بالنسبة له هي الفردوس الموعود الذي طالما حلم به منذ يفاعته الأولى . دخل المعري - رحمه الله - بغداد وهو في حدود السادسة والثلاثين من عمره، دخلها ضريرا فقيرا؛ ومع هذا أخذ على نفسه العهد أن يتعفف أشد ما يكون التعفف، وأن لا يقبل عطاء من أحد؛ كائنا من كان . لقد كان يحمل بين جنبيه كرامة نفسه، مع كرامة العلم التي لم يرها محدودة بحدود . ولهذا لم يقبل أن يُمتهن، لا هو، ولا علمه؛ رغم أنه كان يستطيع أن يحوز بعلمه وبأدبه دنيا المال ودنيا الجاه، وذلك بمجرد التقرب إلى الأعيان بقصائد يعدها الناس مديحا، بينما المعري لا يراها إلا مجرد استجداء رخيص، لا يختلف فيها الشاعر المادح عن الشحاذ المتسول على حافة الطريق . لندع كل هذا، ولنتساءل : ما علاقة الكلب بالمعرفة، وما هي قصة المعري مع أسماء الكلاب ؟ القصة مشهورة، وهي أن المعري دخل أحد جوامع بغداد العامرة بحلقات العلم، وبما أنه كان أعمى، فقد حدث ما هو طبيعي، إذ عثر - من غير قصد - برجل كان نائما، فاستيقظ هذا النائم غاضبا، وصرخ قائلا : مَنْ هذا الكلب ؟ ولأن الرجل لم يعلم لحظتها أن من عثر به أعمى؛ فقد تصوره عنجهياً غير مبال به، وأنه ربما تعمد أن يصطدم به ليفسد عليه لذة نومه . وهنا لم يترك الغضب له فرصة التأكد من أن غريمه ضرير لم يره ؛ فعثر به مصادفة من غير قصد . ما يعني أن غضبه كان غضبا مبررا؛ حتى وإن كانت الشتيمة غير مبررة بأي حال من الأحوال . المهم هنا ليس الغضب الصادر من هذا الرجل، ولا حتى شتيمته الرعناء، وإنما ألهم جواب المعري . جواب المعري لم يكن نوعا من رد الشتيمة (حتى وإن حمل بعض ملامحها)، كما لم يكن نوعا من العفو ولا السكوت ولا الإعراض عن الجاهلين، وإنما كان جوابا معرفيا يمنح المعرفة بُعدا آخر في حياة الإنسان . فبمجرد أن نطق الرجل بشتيمته قائلا : من هذا الكلب ؟، أجاب المعري فورا : الكلب مَن لا يعرف للكلب سبعين اسماً . الجواب الصاعق : الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسما، هو الجواب المعرفي الذي وضع فيه المعري نفسه فوق هرم البشرية جمعاء، إذ لا أحد آنذاك يحفظ للكلب كل هذا العدد من الأسماء . ومن هنا يكون المعري (وفق معياره الخاص الذي ابتدعه على ضوء هذه الحادثة) هو الإنسان الوحيد الذي يستحق صفة : إنسان، في الوقت الذي أراد فيه غيره أن يجرده من هذه الصفة، فقلب التهمة لأن يكون هو الاستثناء الإنساني، بينما الآخرون - وفق معادلته الجائرة - مجرد كلاب!. معيار المعري للأنسنة هنا هو معيار معرفي تستطيع أن تقول - وفقا للمعري - هناك سبعون درجة / مرتبة معرفية يجب قطعها للوصول إلى مرتبة : إنسان، مراحل ليست أسماء الكلاب بأعدادها السبعين إلا مؤشرا عليها . أراد المعري أن يضع الرجل الغاضب في أدنى سلم الحيوانية، إذ المتوقع من مثله أنه لا يعرف للكلب إلا اسما واحدا، ومن ثم، فهو لا زال في المنزلة الأولى والأدنى من بين سبعين منزلة يجب على المرء (في تصور المعري طبعا)أن يقطعها؛ ليصبح إنسانا كما المعري، أي كما يزعم لنفسه . طبعا، المسألة ليست أسماء الكلاب تحديدا، وإنما المناسبة (= نوع الشتيمة : من هذا الكلب؟) هي التي حددت المعيار . المعري وهو يمشي في أروقة الجامع لم يكن قد أعد نفسه لامتحان في أسماء الكلاب، وإنما كانت معرفته بها دليلا على معرفة هائلة تنتظم كل المعارف والعلوم التي كانت متوفرة في عصره ولهذا يقول الخطيب التبريزي، وهو تلميذ أبي العلاء : لا أظن العرب نطقت بكلمة لا يعرفها أبو العلاء . وهي شهادة تؤكد ما يشهد به تراثه، فأنت حين تقرأ أشعاره وكتبه ترى كيف كان الرجل مهيمناً على شتى أنواع المعارف في عصره ؛ بحيث لا تظن أن ثمة معرفة - مهما كانت شاردة - لم يطلع عليها، بل لم يستوعبها بالكامل . معرفة المعري بسبعين اسما للكلب من غير إعداد مسبق، ومن غير توقع للسؤال، ليست إلا مؤشرا على استيعابه للمعجم اللغوي على الأقل . والإمام السيوطي عندما جمع هذه الأسماء من بطون المعاجم اللغوية (مع أنه لم يبلغ الحد المعياري للمعري وإن قاربه) لم يرد إلا أن يساعد من يريدون أن يكونوا أبرياء من تهمة المعري، والتي هي تهمة مركبة، تبدأ من سياق المعرفة لتصل إلى سياق الإنسان . اللافت للنظر هنا، هو أن كلمة المعري (= الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسما) أطلقها وهو شاب في سن السادسة والثلاثين، أي قبل أن يعود لمسقط رأسه : معرة النعمان، ويعتزل الناس، ويَسجن نفسه في بيته سجنا مؤبدا امتد لتسع وأربعين سنة كاملة ؛ متبتلا في محراب المعرفة طوال هذه المدة، وهو الذي لم يخرج من هذا السجن الاختياري إلا إلى قبره الذي كان يراه تجسيدا مأساويا لجناية الآباء على الأبناء (طوال هذه المدة، لم يخرج إلا مرة واحدة، ولساعات محدودة ؛ عندما حوصرت معرة النمعان، وطلب منه أهلها أن يشفع لهم عند الأمير الذي يحاصرها، وقد ندم على خروجه هذا في أبيات له في اللزوميات). لك أن تتخيل، ماذا سيضيف نصف قرن من التجرد الكامل للمعرفة، بعيدا عن ضرورات الحياة، فضلا عن كمالياتها، ومن رجل يمتلك في شبابه من المعرفة ما يمنحه الجرأة على مثل هذا التحدي المعرفي، خاصة وأنها جرأة في مصادفة عابرة لم يكن يتوقعها بحال . ما الذي كان يموج في قلب / عقل هذا الرجل الأسطورة ؟ بل ما الذي تتوقعه من رجل ترهب عمره في محراب المعرفة، لا هم له إلا مُساءلة المعرفة مُساءلةً تنطوي على مساءلة الإنسان، بل ومساءلة ما وراء الإنسان ؟ رجل قضى كل سنوات عمره (= ست وثمانين سنة) بكل ساعاتها المتطاولة التي لم تكن للمعرفة فيها ضرائر، لا من نساء، ولا من أولاد، ولا من مال، ولا من جاه، قضاها في محاورة الأديان والمذاهب والفلسفات ..إلخ حواراً لا ينطلق من مسبقات من شأنها أن تقطع الطريق على عملية الاستبصار. بل لم يكن الرجل مجرد علامة فارقة في استيعاب معارف عصره فحسب، وإنما كان مبدعاً في شتى مجالات الفن الأدبي. في الشعر، وفي الشعر القصصي، وفي القصة، والقصة المتشعرنة، بل وفي الكتابة الحرة المنعتقة من محددات الأجناس (كما في الفصول والغايات مثلا)، كان مبدعا، بقدرما كان مراوغا في مساءلة الثقافة والإنسان . الخطوات الإبداعية المتجاوزة، وخاصة في (رسالة الغفران) هي النتاج الطبيعي، وربما الاضطراري، لمستويات معرفية متجاوزة، كان لابد أن تجد متنفساً لها في وسط لم يكن ليحتمل فلسفة منفتحة بأقصى صور الانفتاح على الإنسان في الزمان والمكان . بعضهم تصور أن المعري، ومن أجل أن يُعبّر عما في نفسه ؛ مما لا يستطيع البوح به، هرب من عالم الدنيا الحقيقي إلى عالم مجازي يستطيع أن يستنطقه كيفما يشاء . في اعتقادي أن المعري لم يهرب إلا إلى عالمه الواقعي، لم يستحضر الماضي الافتراضي، والمستقبل المجازي؛ إلا ليقول كلمته الصريحة في الواقع المُلغى لحساب افتراضي أو لحساب مجازي . كثير من معاصريه فهموا صراحته كما أراد لها أن تكون . إن مساءلة المُكوِّن الثقافي ولو بواسطة الحيل الأدبية، بل ولو بالارتداد إلى أبعد نقطة في ميثولوجيا الإنسان، هي مساءلة للواقع العملي للإنسان . ولهذا أدرك معاصروه أنه ينقض ويفكك عوالمهم التي تأسست على إيديولوجيات مشبعة برؤى الهيمنة والاستئثار وانتهاك حقوق جماهير البسطاء . من الطبيعي أن يحاربه معاصروه؛ لأنه كان النقيض المعرفي للوضع السائد آنذاك . من الطبيعي أن يطارد؛ لأنه كان عقلا ناقدا متحررا من ثقافة التزييف والخداع . ما ليس بطبيعي، وما ليس بأخلاقي، هو منهج المواجهة، واللغة التي حورب بها . فالرجل الذي وجد في شبابه من يشتمه ب : من هذا الكلب ؟، وكانت آنذاك شتيمة من جاهل غاضب، وجد من يصفه في زمن متأخر (ومن الشيوخ المتلبسين بالعلم ؛ لا من الجهال)، ب(كلب معرة النعمان )، وكأن قدر المعري أن تكون حدود المعرفة بالكلاب هي ما يفصل بينه وبين أعدائه، خاصة عندما تكون مستوياتها متعددة بعدد السبعين من أسماء الكلاب . توفي المعري منتصف القرن الخامس (449ه)، ولم يحظ بما يستحقه تراثه الأدبي والمعرفي ؛ لأنه تراث وُلد في محيط ثقافي كان ولا يزال يمارس النبذ والإقصاء لأية ظاهرة معرفية / نقدية / تحررية . الروح النقدية في تراث المعري كانت هي أبرز ما يميزه، كما أنها - في الوقت نفسه - كانت سبب تعمد إهماله، وهو ما تسبب في فقداننا لمعظم ذلك التراث . ولعل الاكتشاف الحقيقي للمعري لم يكن إلا على يد الدارسين المحدثين المتحررين من سجن ثقافة التقليد التي هيمنت على الوعي العربي مدة تتجاوز الألف عام.